لم يعرف عن رئيس البنك المركزي الأميركي بن برنانكه تعمقه في صياغة الجمل والعبارات، غير أن تعبير "الهاوية المالية"، الذي صاغه من أجل وصف الزيادات الضريبية وتخفيضات الإنفاق التي سيعانيها الاقتصاد الأميركي مع بداية سنة 2013 ما لم يوافق رجال السياسة على تفادي تلك المحصلة، قد ألهم العديد من مؤلفي الأغاني والتعليقات الساخرة التي انطلقت للتهكم والتنديد والسخرية مما قاله برنانكه في هذا الخصوص.

Ad

وبرزت هناك أيضاً عواقب أكثر خطورة؛ فقد قلص شبح "الهاوية المالية" من استثمار الشركات، وشرعت ثقة المستهلك الأميركي في الوهن التراجع، إضافة إلى ذلك شهد النمو حالة من التباطؤ وصلت إلى ما يقارب الواحد في المئة خلال الربع الأخير من هذه السنة. وقد تملك صناع السياسة في شتى أنحاء العالم حالة من القلق، حيث أقدم البنك المركزي الأسترالي أخيراً على خفض معدلات الفائدة معتبراً أن "الهاوية المالية" شكلت مصدراً للقلق قادهم إلى اتخاذ ذلك القرار.

هذا القلق أمر يمكن تفهمه واستيعابه لكن تم تضخيمه، إذ إن خطر حدوث كارثة اقتصادية محدود جداً في الأجل القصير، أما التهديد الحقيقي- والفرصة الحقيقية أيضاً المتاحة بالنسبة إلى الرئيس باراك أوباما- فيكمن في الآجال المتوسطة والطويلة.

موقف المشرعين

إذا لم يتخذ المشرعون أي إجراء فإن الولايات المتحدة ستشهد مرحلة من التشديد المالي في سنة 2013 توازي ما يصل الى 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الأميركي، وهو ضغط يوازي المستوى نفسه الذي شهدته اليونان، ولن يستغرق الأمر سوى أشهر قليلة حتى تندفع البلاد نحو الركود. المواجهة الكاملة بين باراك أوباما والكونغرس ستفضي إلى كارثة محدقة ستحل بالبلاد في أقرب وقت ممكن، لأنه ما لم يقدم المشرعون في الولايات المتحدة على التصويت على رفع سقف الدين (وهو يمثل أقصى حجم إجمالي للدين الذي يمكن لوزارة الخزانة الأميركية أن تصدره) بحلول شهر مارس على وجه التقريب، فإن الحكومة الفدرالية لن تتمكن من دفع الفواتير المستحقة عليها والتي ربما تشمل استحقاقات حملة سنداتها. إضافة إلى أن الضرر الذي سينجم عن التخلف الذاتي عن السداد سيتفوق إلى حد بعيد حتى على الأضرار التي قد تتسبب فيها الهاوية المالية نفسها.

وعلى أي حال، ولأن هناك نتائج كارثية لا تطاق إذا طال أمد المأزق الذي نحن في صدده، لذا فإن من شبه المؤكد عدم وقوع مثل هذه الكارثة. ومن المرجح أن يتمكن باراك أوباما وأعضاء الحزب الجمهوري في الكونغرس، بحلول نهاية شهر ديسمبر أو مطلع سنة 2013، من التوصل إلى اتفاق من شأنه تفادي معظم الزيادات المقررة في الضرائب وتخفيضات الإنفاق، ومن ثم الموافقة على رفع سقف الدين. وقد غدت عناصر ذلك الاتفاق أقل وضوحاً، إذ يبدو أن أعضاء الحزب الجمهوري قد أذعنوا لموقف الرئيس أوباما وقبلوا أنه يتعين على الأثرياء الأميركيين دفع مزيد من الضرائب، وربما من خلال إجراء إعفاءات محدودة ومعدلات ضريبة أعلى في آن معاً.

غير أن ثمة سببين كبيرين للشعور بالقلق بالنسبة الى الولايات المتحدة- وبقية دول العالم- ويتمثل الأول بأن الاعتماد على تفاصيل الاتفاق المشار إليه يظهر وجود قدر كبير جداً من الضغط والتشديد المالي في سنة 2013. ويتمثل السبب الثاني- الذي يتسم بقدر أكبر من الأهمية- بكون تخصيصات الإنفاق هي التحدي الأكبر للولايات المتحدة على الأجل الطويل المالي. ويتعين على أي اتفاق مالي أن يفضي إلى إصلاح نظام الضمان الاجتماعي (أي التقاعد)، ونظم الرعاية الصحية "ميديكير" (بالنسبة إلى المتقدمين في السن)، ونظام المساعدة الطبية "ميدكيد" (المخصص للفقراء). وكان الرئيس باراك أوباما يطالب بزيادة في الضرائب تصل إلى 1.6 تريليون دولار خلال السنوات العشر المقبلة، غير أنه عرض إجراء خفض في التخصيصات بمبلغ يقارب الـ400 مليار دولار فقط، ويتعين على الرئيس أوباما رفع هذا المبلغ من أجل إغراء الجمهوريين على قبول الاتفاق، ولأن ذلك هو الشيء الصواب الذي يتوجب القيام به.

سياسات فضفاضة

لدى الولايات المتحدة الآن فرصة من أجل تصحيح ليس وضعها المالي فحسب، بل سياساتها الأخرى شديدة الاستقطاب وتعزيز قدراتها في هذا الشأن أيضاً. من جانبهم، يعتقد الجمهوريون بشدة أن فرض ضرائب أعلى سيدمر الاقتصاد الأميركي. وتجدر الإشارة إلى أن الجمهوريين في الكونغرس لم يصوتوا قط لمصلحة زيادة في الضرائب منذ سنة 1990. وعلى الجانب الآخر، يؤمن الديمقراطيون بشدة أيضاً بمدى أهمية الرعاية الصحية وخطط التقاعد بالنسبة إلى كبار السن. وكانت المرة الأخيرة التي أُصلح فيها نظام المعاشات والتقاعد قد جرت في سنة 1983. ومنذ ذلك الوقت عمد رجال السياسة إلى الإفراط في حجم المساعدات والمعونات لتلك البرامج الاجتماعية في وقت قفزت فيه تكاليف الرعاية الطبية بصورة حادة وارتفعت فيه أعداد كبار السن بين الأميركيين، وكان من نتيجة ذلك حدوث فجوة متنامية من العجز المالي. ويصل العجز المالي "الهيكلي" في ميزانية الولايات المتحدة إلى حوالي 7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وتعتبر أميركا هي الأكبر عجزاً بين الدول الثرية باستثناء اليابان التي تتفوق في عجزها المالي.

ومنذ الأزمة المالية أفرزت المواجهة الإيديولوجية في الولايات المتحدة سياسة مالية معقولة في الأجل القصير، كما أن أميركا تمكنت من تفادي الركود الاقتصادي من خلال إجراءات تحفيز والعمل على إبقاء السياسة المالية أقل تشددا وفضفاضة ومرنة ما أفضى إلى دعم جهود التعافي الاقتصادي. ومع تبني العديد من الدول الغنية الأخرى سياسات متشددة أوسع وأسرع فقد قدم ذلك خدمة إلى العالم.

وينسحب ذلك على الاقتصاد الضعيف في الوقت الراهن، ومع وصول عوائد السندات إلى مستويات متدنية قياسية، فإن الولايات المتحدة ليست في حاجة، ويجب ألا تلجأ، إلى تشديد سياستها بسرعة كبيرة. ولعل تطبيق القليل من السياسات المتشددة في سنة 2013 يكون أمراً متوقعاً ويمكن التحكم به. وتشير معظم التوقعات إلى إمكان تحقيق الولايات المتحدة لمعدل نمو في الناتج المحلي الإجمالي نسبته 1.5 في المئة، وذلك مع انتهاء الإجراءات التي كانت مصممة كي تكون مؤقتة، مثل الإعفاءات والتخفيضات الضريبية على الرواتب، لكن يوجد خطر في أن يفضي اتفاق الحد الأدنى إلى حدوث ضغوط وسياسات متشددة أكبر. فعلى سبيل المثال فإن اتفاقية تمديد الخفض الضريبي المقرر لمصلحة الطبقة المتوسطة فقط، سوف تنعكس في صورة تقليص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3 في المئة في سنة 2013... وتعد هذه نتيجة وخطوة سريعة للغاية.

التعافي الاقتصادي

ومن أجل مواصلة التعافي الاقتصادي يتعين أن يكون الاتفاق أقل شدة وقسوة، كما يجب أن يركز على إصلاح نظام مخصصات الإنفاق في الأجل الطويل بدلاً من إجراء التخفيضات على المدى القصير. تعتبر هذه سياسة جيدة وذلك نظراً لأن إصلاح تخصيصات الإنفاق يمثل أولوية بالنسبة إلى الجمهوريين، كما أنها سياسة اقتصادية جيدة، لكن الإنفاق على كبار السن سيرتفع بصورة أسرع في الولايات المتحدة مقارنة بمعظم الدول الغنية الأخرى، ويرجع ذلك بشكل جزئي إلى أن خطط التقشف في أوروبا طرحت في الأساس إجراء بعض الإصلاحات القاسية في أنظمة المعاشات، علاوة على أن تكلفة الرعاية الصحية في الولايات المتحدة في الأصل مرتفعة للغاية وتتزايد بوتيرة سريعة.

صفقة ضخمة

لدى الرئيس أوباما فرصة لإصلاح هذا الوضع مع إصلاح نظام تخصيص النفقات، وهو الأمر الذي تسبب في حيرة كل الرؤساء الأميركيين منذ عهد رونالد ريغان. فتحت وطأة إعادة انتخاب أوباما والهاوية المالية، بات الجمهوريون مرغمين على إظهار بعض المرونة في ما يتعلق بالضرائب. وقد أتاح هذا الانتصار للرئيس أوباما قدرة ونفوذاً على جناح اليسار داخل حزبه الديمقراطي، لذلك إذا استطاع استخدام ذلك من أجل إجراء تغير حقيقي وعلى نطاق واسع بدءاً من نظام المؤشرات الدنيا لدفعات التقاعد وصولاً إلى وسائل اختبار سبل استفادة الأميركيين من نظم الرعاية الصحية، فإنه سيحدث تغييراً في المستقبل المالي للولايات المتحدة على الأجل الطويل.

لكن للأسف لم يظهر الرئيس أوباما حتى الآن سوى قدر ضئيل من الجرأة، معتبراً أن قضية التقاعد والمعاشات يجب ألا تكون جزءاً من أي اتفاق، وأن مسألة ضبط تكاليف الرعاية الصحية ومراقبتها عبر خفض الدفعات المدفوعة للجهات التي توفر تلك الخدمة مثل المستشفيات. ما يدور دائماً في الجلسات الخاصة قد يكون مختلفاً... حيث يقال إن الرئيس أوباما يسعى إلى التوصل إلى اتفاق جذري لا يقتصر على تفادي الانزلاق في "الهاوية المالية" فحسب، بل يضع الولايات المتحدة على مسار مالي مستدام- ذلك الاتفاق بات في متناول اليد الآن يجب عليه أن يلتقطه ويحققه.