قد لا تكون كتابة التاريخ قادرة على الاستغناء عن الرواية، لا سيّما التي تعانق بسردها المكان والزمان وأهلهما. وصحيح أنّ الرواية الآخذة عَصَبها من الواقع تتصرّف وتعدّل وفقًا لشهيّة صاحبها واستجابة لفنّيّة النصّ، إلاّ أنّها تظهر الأحداث والناس بعراء الحقيقة، وتكون يوميّات متداخلة، فيها من الصّدق ما يثبته التاريخ البعيد من الهوى، وفيها أيضًا من الهوى الذي لا يستطيع الروائي إماتته فيه حين الكتابة.

Ad

في «أصوات الموت»، تقرأ أجة تمل قوران وتخبر قلمها البارع في سَوْق مياه المعاني إلى طواحين الجمال على شعريّة تكثِّف الجملة الروائيّة فتبتعد عن الثرثرة بالمعنى الروائي، ليغدو القارئ وكأنّه لا يقرأ النثر إنّما، وفي مواضع كثيرة من الرواية، هو يقرأ شعرًا يسيل نثرًا.

اختارت قوران لبنان ليكون الجغرافية الأولى لروايتها وتليه أكسفورد، وباريس. وأيّ لبنان اختارت؟ لقد حلا لها روائيًّا الوجع الفلسطيني ومنه مدّت يدها إلى الوجه الفيليبيني والسوري في لبنان.

للرواية بطل رئيس وإن لم يستأثر بالسّرد وهو فيليبينا. وتحضر بموازاته «دنيز» الشخصيّة التي عبثًا بحثت عن ذاتها في أكسفورد وباريس ولم تستطع أن تفتح باب قصّة وتعيش بين كلماتها إلاّ حين حملها بساط السّرد في أواخر الرواية إلى لبنان. دنيز، التركيّة، تقصد أكسفورد، وتتابع تحصيلها الجامعي العالي، وتسعى إلى أن تكون أكاديميّة غير منغمسة في السياسة شأن أهلها، فما أمّها سوى امرأة «بلغت الستين من عمرها...» و{لم تتخلّص من أمراض الصحافة»، وما أبوها سوى رجل تراه «خردة الاشتراكيّة» ومريض قيادة، «يعتقد نفسه الدالي لاما.. يقول: «جفّ منبع حياتي، ينبغي أن أعيد تدفّقه»...

 إلاّ أنّ الأكاديميّة لم تكن حلاًّ لها، ولم تستطع الانتساب نفسيًّا إلى المجتمع الغربي الذي يناقش مأساة المقهورين تحت الشمس، حول موائد متقنة التنظيم: «حفظت دنيز ما يجب أن تعمله في أمسيات كهذه، كما كانت تحفظ الأدعية العربيّة في صغرها دون أن تفهمها لأنّ من تربية أكسفورد المهمّة جدًّا تناوُل الناس طعاماً في جلسة طويلة... دون أن يتحدّثوا عن شيء أبدًا بالمعنى الحقيقيّ»... وفشلت غريبة أكسفورد في علاقتها مع «طونتش» لأنّه لم يكن يختلف عن المدينة التي يعيش فيها، ما جعل بيتهما مقبرة: «لأنّ كلّ جدل يقتل المخطّطات المشتركة خطّة تلو أخرى، يغدو البيت مقبرة غير مرئيّة»... كما فشلت في دراستها الأكاديميّة لأنّها لم تكن في مكان ما معنويًّا ووجدانيًّا، وها هي المشرفة على أطروحتها السيّدة طرابلسي تصعّد صراحتها: «أنت هجينة. هجينة قادمة من منتصف المسافة بين الشرق والغرب بالضبط». بعدما قالت لها: «تدرسين الشرق الأوسط ولكنّك لا تذهبين إلى الشرق الأوسط. تدرسين الحركات الإسلاميّة، ولكنّ عقلك لا يتدخّل. تعملين على الفقر ولا تغضبين»... ولم تتخلّص دنيز من أزمتها إلاّ حين أسعفتها الروائيّة قوران بشخصيّة مناسبة، فتوجّهت بإغراء وجدانيّ إلى لبنان لترتدي قصّتها بعد عراء طويل.

قدران

أمّا «فيليبينا» فهي ابنة قَدَرَيْن جمعهما سواد ذو قدرة على الإضاءة مثلما هو ذو خصوبة استثنائيّة في مدّ غابات الألم والحزن بالشجر العملاق. وقصّتها تتّضح شيئًا فشيئًا على امتداد الرواية من خلال رسائل والدها إليها، الدكتور حمزة الفلسطيني، العامل في مستوصف مخيّم شاتيلا: «رشّوا العائلة الانعزاليّة عدوّة الفلسطينيّين اللدودة عند «المتحف» على نقطة تفتيش «البربير» وعزل أمّك واحد من جماعتنا قائلاً: الشعوب المسحوقة إخوة، وأركبها، وجلبها إلى المخيّم». وتتطوّر العلاقة بين الدكتور وميشيلاّ إلى أن تكون «فيليبينا» ثمرة حبّهما. إلاّ أنّ القصف الإسرائيلي يسحب ميشيلاّ من الرواية إثر وفاتها، كما توقف مجزرة شاتيلا نشاط الدكتور حمزة في ساحة الردّ. وكان الدكتور قد أرسل طفلته إلى مانيلا، حيث أوصتها جدّتها وهي تموت: «لا تذهبي إلى بيروت، أمّك لم ترجع. أنتِ أيضًا ستضيعين». غير أنّ فيليبينا رجعت إلى بيروت، المدينة التي: «هي الإيمان مرّة أخرى بالمستحيل وبغباء»... وفي «هذه المدينة الملعونة حتى الذين ليس لديهم أيّ شيء، عندما تأتي الأوامر من الأعلى هم الذين يقلعون أعين بعضهم البعض»...

وتشاء قوران أن يكون الحبّ بين «فيليبينا» و{مروان» السوري فكان، لتنتهي الرواية ومروان مصاب برصاصتين في صدره. هكذا تفترس الأقدار السوداء بعضها في دائرة محكمة الإقفال. فليس لمروان أن يعوّض عن الأرض والهويّة والعقيدة بالحبّ، وليس لفيليبينا أن تقفز من نافذة قدرها إلاّ في اتّجاه أبيها وأمّها، فترتدي «كنزة صفراء وبنطالاً أسود»، الثياب التي ارتدتها أمّها بعد وصولها إلى مخيّم شاتيلا.

حاولت قوران أن تقول كثيرًا بروايتها، وقد اختارت قضايا الآخرين في لبنان لا قضيّة لبنان. وأرادت أن تشير إلى ظلم يتشابه على سُنّة: «إنّ الغريب للغريب قريب». فجمعت الفلسطيني والفيليبيني والسوري والأرمني، وتضامنت، على المستوى السياسيّ روائيًّا، مع حزب الله، فـ{ستانيك» المهرّجة الأرمنيّة لم يسمح لها الحزب بالانتساب إليه لأنّه حزب لا يضحك... وكأنّ قوران تريد حزب الله يساريًّا، أي بلا عقيدة دينيّة، فهي نزعت حجاب «عائشة» أكثر من مرّة في الرواية: «حجاب عائشة يعلق بباب الشرفة فتنفكّ عقدته»... كذلك جعلت الجنس مادّة أساسيّة في السّرد، الجنس الذي لا يحتاج إلى أكثر من الحبّ، أو الشذوذ، بعيدًا من مؤسّسة الزواج، فبعض من الكتابة أتى بخلفيّة غربيّة والآخر بخلفيّة شرقيّة يساريّة علمانيّة.

وفي الحديث عن تماسك الرواية، تبدو شخصيّة دنيز دخيلة على السّرد، وقد عَرِقَت قوران لإيصالها إلى لبنان وظهرت واقفة خلفها ومنحازة إليها. في حين أنّ «فيليبينا» تكفي منفردة لتكون عصب الرواية ومحورها ولو أنّ من أهداف الروائيّة أن ترى زمنًا حديثًا يصطدم بزمن مضى ليطلع منهما رنين يعلن أنّ أصحاب الجروح لا يزالون أصحاب الجروح، وأنّ العدالة قد تفوق الظّلم عمرًا غير أنّها نادرًا ما تصدّق عينيها حين تراه.