نؤكد بداية أن القول إن إلغاء صفقة "الداو" تتحمل مسؤوليته بالكامل الحكومة السابقة، بغض النظر عن حجم الضغوط التي تعرضت لها أو نوعيتها، ليس معناه الرضا عمّا ترتب على إلغاء تلك الصفقة من تبعات مالية البتة بل بالعكس تماماً، إذ إنه إدانة لطريقة عمل الحكومة السابقة التي ترتب عليها ما ترتب من تكاليف مالية على الدولة وضغط نفسي رهيب وتشويه سمعة خاصة للقيادات النفطية الكفؤة التي كانت حريصة على المحافظة على المال العام من ناحية.

Ad

كما أنه من ناحية أخرى تحديد للمسؤولية على اعتبار أن ذلك هو الخطوة الأولى الضرورية لتشخيص المشكلة لكي نتجنب الوقوع فيها مرة ثانية مستقبلا لأن صفقة "الداو" ليست الصفقة الأولى، ولن تكون الأخيرة... علاوة على أنها ليست مسألة فنية بحتة كما يصورها البعض إما عن عدم دراية وإما عن تعمد، بل إنها مسألة سياسية أيضا تتعلق بالسياسة النفطية واستخدام الموارد المالية للدولة.

على هذا الأساس ولكي لا تتكرر المشكلة فإنه من المفروض أن يكون هنالك خط فاصل بين السياسي والفني لأن طغيان الأول على الثاني يفسده خصوصا أن هناك ما يسمى "الطبيعة المزدوجة" للمؤسسات العامة، فهي من جانب مؤسسة يفترض أن تعنى بالجوانب الاقتصادية، لكنها من جانب آخر مؤسسة عامة، ما يعني أنها يجب أن تأخذ في الاعتبار الجوانب السياسية والاجتماعية.

وهنا يأتي دور الحكومة والمجلس (في قانون الإنشاء) في تحديد الخطوط الفاصلة بين ما له علاقة بالسياسة العامة، فيناقش على مستوى السلطتين وما هو فني بحت ويترك أمر تحديده عادة للإدارات التنفيذية للمؤسسات العامة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المسؤولية في تحصين الأعمال التنفيذية للمؤسسات العامة من التدخلات السياسية تقع على عاتق الحكومة سواء مجلس الوزراء أو مجالس إدارات المؤسسات العامة.

فكلما كانت الحكومة قوية وكفؤة قلت قدرة المجلس على التدخل في الشؤون الفنية أو الأعمال اليومية للمؤسسات العامة، وكلما كانت مجالس إدارات المؤسسات العامة كفؤة ونزيهة قل تدخل الحكومة في الأمور الفنية والعكس صحيح. وخير شاهد على ذلك أن محاولة رئيس الحكومة السابقة تجنب الاستجواب هو السبب الرئيسي الذي أدى إلى إلغاء "الداو" رغم تأكيد القيادات التنفيذية للمؤسسات النفطية وبعض أعضاء المجلس الأعلى للبترول الذين قدموا استقالاتهم احتجاجاً بل ووزير النفط آنذاك أيضا المهندس محمد العليم، أن لديهم ما يكفي من الحجج والأدلة والبراهين المدعمة بالمعلومات والأرقام والبيانات الدقيقة الكفلية بالرد على الملاحظات والتحفظات كافة التي يثيرها سواء النواب أو قوى الضغط الأخرى.

من هنا فإنه غير صحيح إطلاقا أن مسؤولية إلغاء صفقة "كي داو" يتحملها كلياً أو جزئياً النواب لأنهم تدخلوا في أمور فنية لا تعنيهم، وذلك لأنه غير مطلوب منهم أصلاً التصويت عليها بل كل ما هنالك أنهم أبدوا بعض التحفظات وهددوا بالمساءلة السياسية.

ثم إننا لو سلمنا جدلاً بهذا الكلام فمعناه أن المطلوب مستقبلاً ألا يبدي أحدٌ خصوصاً النواب وقوى الضغط أي ملاحظات أو انتقادات على أي صفقات ضخمة تبرمها الحكومة في القادم من الأيام، على اعتبار أنها تحتوي، كما يدعي البعض، على جوانب فنية لا يعرف النواب الكثير من تفاصيلها رغم وجود اللجان البرلمانية المتخصصة، وهذا الأمر خطير جدا لأنه يعني، بطريقة أو بأخرى، إلغاء الدور الرقابي للمجلس وحظر رقابة الرأي العام لأن السياسات الحكومية كافة لا تخلو من الأمور الفنية!