مظاهر كثيرة بين ظهرانينا وحولنا، مؤلمة ومزعجة وجارحة للذوق العام واللياقات المتعارف عليها. وهي بهذا السوء لأن السيطرة عليها لم تعد ممكنة، ولم تعد ثمة أنياب أو أظافر لقانون أو أعراف أو خلق  لتحدّ من تفشي أذاها وبشاعاتها.

Ad

لن نطيل في تعداد ما يرين على أجوائنا وبيئتنا من منغصات وهموم يومية وموسمية، فهي -ولله الحمد– باتت الخبز اليومي على مائدة الحياة. ولكن هناك مشهد منفّر بتنا نصطدم به كلما خرجنا من بيوتنا، وكلما تجولنا بين شوارعنا الداخلية الهادئة، وكلما عرّجنا على مراكز التسوق التعاونية للتبضع اليومي. شيء ما في ذلك المشهد يشعرك بالقذارة والنفور والرغبة بالبكاء قهراً، وفوق ذلك يشعرك بضعف الحيلة والعجز. وأعني به ظاهرة «الجرافيتي» أو الشخبطة بالأصباغ (الرش – السبراي) على حوائط وأرضيات المرافق العامة. وهي أفعال القصد منها التخريب والإتلاف، لأنها تتم بطريقة تتسم بالعدائية والحقد على (المرفق أو المنشأة)، أو الحقد على المستفيد منها. وإن لم يكن هذا أو ذلك فهو إذاً لون من المرض النفسي المعبّر عن الكره للجمال والمنفعة.

أما مصطلح «جرافيتي» المعروف عالمياً فشيء يختلف عما نراه على حوائط الجمعيات التعاونية ومراكز الخدمة عندنا. وهو في معناه المتعارف عليه قد يُعتبر لوناً من فنون النقش أو الرسم على الجدران في الأماكن العامة. وهذه الرسوم بوسائلها البدائية البسيطة كأصباغ السبراي أو الطباشير، قد تحمل مضامين واحتجاجات سياسية أو اجتماعية خاصة بمجتمعاتهم، كمناهضة الحروب أو السخرية من أوضاع حياتية غير لائقة، أو الدعوة إلى التحرر كما في حركات «الهيبيز» أو «البنكس». ولكن إذا تم تنفيذ رسوم «الجرافيتي» دون إذن من الجهات المعنية في المنطقة، فإنه يعدّ لوناً من التعدي والتخريب وجريمة تستلزم العقوبة. وقد شاعت رسومات «الجرافيتي» منذ عقود في بعض مرافق المدن الكبرى كنيويورك ولندن وبرلين، وفي أماكن معينة مثل محطات القطارات والأنفاق والأحياء الفقيرة، وفي المناطق العشوائية والمباني المهجورة أو الآيلة إلى الهدم.

وارتبط «الجرافيتي» خاصة في أميركا بثقافة «الهيب هوب» وموسيقى السود ورقصهم، أو ببعض العصابات «gangs» ممن يعبرون بالرسم «الجرافيتي» ورموزه الخاصة عن حدود مناطقهم وخصوصيتها.

ولعل هذا السرد حول نشأة «الجرافيتي» في دول الغرب وظروف هذه النشأة، يدعونا إلى التأمل والتساؤل حول القاسم المشترك بين طبيعة رسوماتهم ورموزها وأهدافها، وبين الشخبطات العشوائية المنفرة التي نراها في المراكز الخدمية وداخل مناطقنا السكنية! ففن الجرافيتي في أساسه له جانبه الإبداعي المتقن الذي قد يثير الإعجاب لدقة الرسم أو ابتكارات الحروف والرموز، لكن ما نراه عندنا لا يخرج عن التخريب والإتلاف المحض ويُعدّ جريمة في حق الصالح العام تستدعي العقوبة. أما إذا كانت هناك ثمة دلائل على انحراف ما لدى الأحداث والأطفال المرتكبين لهذا اللون من التخريب، أو ثمة ما يدل على التمرد والتحدي لقيم المجتمع، أو ثمة إحساس ما بالغبن أو التهميش، فالمشكلة حينئذٍ تبدو خطيرة وتحتاج إلى دراسة ومتابعة جادة.

والغريب في هذه الظاهرة أن تلك المشاهد المنفرة والأفعال التخريبية لا تقع في المناطق العشوائية أو المنسية أو الفقيرة في بنيتها التحتية كبنيد القار أو خيطان أو الصليبية مثلاً، وإنما باتت تغزو المناطق السكنية النموذجية والضواحي الجديدة الراقية كقرطبة واليرموك والسرة ومشرف والسلام وحطين والزهراء... إلخ! الأمر الذي لا بد أن يطلق علامات استفهام كبيرة! فمن هم هؤلاء المخربون؟ وهل ينتمون إلى المناطق السكنية نفسها؟ أم يأتون من مناطق أخرى من أجل إشاعة الفوضى والخراب؟ وما الهدف من هذا الغزو المبرمج الذي بات يطول حتى العلامات المرورية وأعمدة الإضاءة ومحولات الكهرباء وأسوار المدارس دون أن يحرك ساكناً لدى سلطة أو جهة؟ وأخيراً من المسؤول عن الإجابة عن كل هذه الأسئلة؟