«إخوان ما بعد الرافائيلية» الإنكليز في الرسم لم يكن تآلفاً سرياً مثل «إخوان الصفاء» العربية في الفلسفة، فتاريخ تشكلهم معروف (1848)، وأسماء المؤسسين معلنة: جون ميلايِس، وليم هانت، دانتي روزّيتي، وجميعهم رسامون بالغو المهارة. والتسمية هادفة بصورة دقيقة: فهم يرون أن تأثير الموجة «الأسلوبية» التي قادها فنان عصر النهضة «رافائيل»، مع دافنشي ومايكل أنجلو، قد أفسدت فن الرسم بصورة ما. لأنها اعتمدت طرقاً أسلوبية «مثالية» في التكامل الهارموني والنزعة المتكلفة، البعيدة عن «الطبيعية». ولذلك أراد هؤلاء الشبان العودة إلى ما قبل «رافائيل» إلى غزارة التفاصيل، وكثافة الألوان، والتأليف المركب الذي تمتعت به المرحلة المتأخرة من القرون الوسطى، والمرحلة المبكرة من عصر النهضة.

Ad

كانت هذه «الأخوية» أيضاً صرخة مضادة لعصر الثورة الصناعية، وللرأسمالي المنافق الذي يطمع في شراء لوحاتها. وليس مصادفة أن يكون فيلسوف الاقتصاد كارل ماركس، في المرحلة ذاتها، منكباً في المكتبة البريطانية على تأليف كتابه الشهير «رأس المال»، ولقد أصدر مع رفيقه فريدريك أنجلس «البيان الشيوعي» في عام تأسيس الإخوان لمدرستهم (1848). ولكن هذه النزعة المضادة لدى رسامي «ما بعد الرافائيلية» لم تكن منسجمة في توجهها، لأن جانبها التقدمي هذا يتعارض مع التفاتتها المتطرفة إلى الوراء في فنها، ومع انسجامها ورعاة الفن من الأثرياء، حتى ان «ميلايس» أصبح رئيساً

لـ«الأكاديمية الملكية للفن» المتهمة بتوجهها المحافظ والرجعي. رغم أن بعض الدارسين ينتصر لفكرة اعتبارهم مدرسة «طليعية» في عصرها الفيكتوري.

عنوان المعرض الشامل في متحف الـ»تَيْت برِتِن»: «ما بعد الرافائيلية» جاء مُلحقاً بصفة «النزعة الطليعية الفيكتورية»، أي النزعة التي تطمح إلى الجديد في مرحلة تاريخية بريطانية بالغة الثراء، بفعل التوسع الاستعماري، وبالغة البؤس، بفعل التفاوت الطبقي المجحف. وواضح أن من تناقضات هذه المدرسة أنها تمثلت في كل أعمالها الفنية بجانب الغنى الاجتماعي، ومسرات الجمال المترف. في حين كان الروائي «ديكنز»، وهو مجايلهم، يلاحق جانب البؤس الاجتماعي، وأوجاعه، على أن مسرات الجمال الفني لا تنحني للتاريخ، بل تتسامى خالدة. ولذلك يبدو جمال أعمال هؤلاء أخاذاً. ففيه ما في أعمال المرحلة المبكرة لعصر النهضة، خصوصاً أعمال «فان آيك»، من ميل إلى استخدام الألوان الحيوية التي تشبه التماع الرسوم على الزجاج، وميل إلى الوضوح الحاد، والتركيز على التفاصيل النضرة الصافية المفعمة بالطاقة، إلى جانب الميل إلى الموضوعات الإيطالية التي تعتمد استيحاء الأسطورة، الحكايات، والنصوص الشعرية والأدبية.

النزعة الحلمية نجدها في لوحة «وليم هانت»: «الحمل الضال»، المخلوق الحيواني غير الأرضي، بشعره المتوهج على اتساع اللوحة الكبيرة، يحاط بصحراء ملحية جافة، تومض بلون الأرجوان الفضي. «حلمية تُنبئ بحلمية السورياليين الذين جاءوا بعد نصف قرن»، على حد قول أحد النقاد.

استيحاء الحكاية نجدها في لوحة «ميلايس» الرائعة: «إيسابيلا» التي وضعها عن حكاية إيطالية من العصور الوسطى، حول ابنة تاجر غني أحبت شاباً فقيراً، قتله أخوتها لعدم ملاءمته. اللوحة تضم العائلة على مائدة طعام، في هيئات تنم عن أسرار لا أخلاقية من قبل الأخوة تجاه أختهم. فالأخ الأكبر يتعامل مع كسارة بندق في يده بنرفزة، ويرفع ساقه رافساً كلب أخته التي تجلس قبالته، وإبهامه يتجه إلى موقع عضوها بجسارة، يفسرها أحد النقاد بأنها إشارة إلى علاقة سِفاح. ولا تُخفي اللوحة سخريتها من اللياقة الكاذبة للجالسين، التي تصب في النهاية في فضح المجتمع الإنكليزي الفيكتوري.

الجمال في لوحة «ما بعد الرافائيلية» مُفعم بالحسية، والشهوات. وكأن رسامي هذه اللوحة هم الفيكتوريون الوحيدون الذين عرفوا أن النساء كائنات جنسية. في مرحلة بالغة التستر المنافق، والتظاهر الكاذب.

المعرض رائع، وزحمة الجمهور لم تترك تجوالي حراً مُرتاحاً، على أنها أعطتني فرصة الوقفة المتأنية أمام كل عمل. الذي لفت نظري، قبل المغادرة، أن النساء يشكلن الأكثرية، وينفردن برغبة التعليق والحوار حول كل لوحة يتعرضن لها، أو تتعرض لهن.