أكد الكاتب محمد السعيد أن المسرح الأسطوري الذي يقصده يعمد إلى تكثيف ثوابت بنيوية تكرس لمعنى الإنسان في نفس المتلقي، ويشترك الجميع في النهاية بنشيد تمجيد موحد. جاء ذلك، ضمن محاضرة فكرية نظمتها ورشة السهروردي الفلسفية في مكتبة آفاق مساء أمس الأول، بعنوان المسرح الأسطوري.
بداية، تحدث السعيد عن تعريف المفكر السومري آوركاجنيا للحرية «أنها العودة إلى الأم أو الرحم»، مبيناً أن الأم عند العراقيين القدماء هي «الطبيعة»، وسموها «إنانا»، ثم صارت «عشتار» ربة الحب والحرب، مؤكداً أن التطرق إلى الأسطورة يهدف إلى بعث الموقف الأصلي -الإنسان- بعد أن تمت محاصرته من الآلة التي اكتشفها الرجل، لاسيما أن تناول الأسطورة راهنا في كل الحقول المعرفية يسعى إلى تسليط الضوء على إمكانات موجودة في النفس البشرية يحتاج إليها الإنسان للتعايش مع الآخرين.عادات وتقاليدواستطرد السعيد في الحديث عن الأم في الأسطورة في بلاد الرافدين، موضحا أنها الطبيعة بكل مكوناتها، الشجر والمطر والريح والماء والبشر والعادات والتقاليد والفكر، وهذا الإرث الضخم الذي حدوده بلاد الرافدين يماثل طبائع الشعوب الأخرى محتفظا بخصوصيته، فإن كانت الحضارة العراقية لديها «عشتار»، فهناك عشتروت وافروديت وفينوس وايزيس في حضارات أخرى.وفي حديث عن الألفاظ المشتقة من كلمة عشتار يوضح السعيد أن مفردات كثيرة خرجت من رحمها مثل كلمة «الاسطرلاب»، ومع اكتمال علم الفلك البابلي استحوذت عشتار على مقاليد علم النجوم بزواجها من الإله «آنو»، كما أن كلمة أسطورة اشتقت من عشتار أيضاً، بمعنى أن المدخل المناسب لقراءة الأسطورة هو البدء من شخصية عشتار، وذلك يتم التخلص من الهيمنة الذكورية التي غزت هذا العلم.وأضاف: «ما قبل الطوفان وبعد الطوفان كان الإنسان يلاحظ التعاقب ما بين الليل والنهار، إلى أن عرفت المرأة الزراعة، ووضع هذا الاكتشاف حداً لرعب الإنسان من الطوفان، مستوعباً الخلق الجديد بعد الطوفان، ومن هنا ظهرت الأشكال الدرامية المواكبة لهذا الحدث كطقوس تهدف إلى تكرار الأسطورة الأولى».وبشأن الاحتفالات الدينية في الأسطورة العراقية، يؤكد السعيد أن عقيدة النزول إلى العالم السفلي والصعود منه فرضت نفسها على الحضارة العراقية إلى نهايتها، تماشياً مع الدورة الزراعية، وبقيت الاحتفالات بموت الطبيعة وبعثها أو ما يسمى بالاستسقاء مسيطرة على أعياد العراقيين، لاسيما أن الشخصية المحورية ضمن هذا الاتجاه كانت عشتار وأسطورتها الشهيرة.وفي ما يتعلق بنشأة المسرح، يقول السعيد إن «الحضارة البابلية اشتهرت بتنظيم طقس احتفالي كبير يتخلى فيه الملك عن عرشه لأحد الأفراد الأكثر فقراً وجهلاً في المدينة لمدة أحد عشر يوماً، ثم يظهر في اليوم الثاني عشر، فتعم الأفراح في المدينة وكأن عجلة الزمن بدأت تدور بعد فترة توقف، مشيراً إلى أن هذه الأسطورة وأساطير أخرى خرجت من رحمها أفرزت مجموعة أشكال درامية تشترك في حوار الفرد والجوقة.وعن المسرح الإغريقي يشدد السعيد أنه انطلق من الفرد وظاهرة التحول والتعرف، معتبراً أن هذه البداية تنحاز إلى الذكورة بامتياز، لاسيما أن الإغريق هم أول من أدخل السلاح الحديدي للمنطقة، كما يشير إلى رأي المفكر الألماني نيتشه حول المسرح الأسطوري، إذ يرى أن الكورس ينوب عن الجمهور، وينوب الممثل عن الكورس، كما ينوب الإله عن الممثل، وفي النهاية ينقل الكورس كلام الإله إلى الجمهور مشتركين معاً في تسبيحات إيقاعية -وفقاً لتفسير نيتشه- كما أورد أشكالا أخرى للمسرح الأسطوري، مبيناً أن غروتوفسكي أنشأ المسرح الفقير متخلصاً من بعض مفردات العرض المسرحي، بينما يرى السعيد أن المسرح الأسطوري الذي يقصده يستلهم فيه الممثل.وأضاف السعيد: «بناء المسرح الأسطوري الذي نقصده تكثيف ثوابت بنيوية تكرس لمعنى الإنسان في نفس المتلقي، ويشترك الجميع في النهاية بنشيد تمجيد موحد».كما أكد السعيد أن لم يرغب في تقديم مسرحية إنانا تنزل إلى العالم الأسفل ضمن مهرجان أيام الشباب للمسرح، بسبب عدم اكتمال المسرحية ونضوجها من حيث الفكرة والمضمون، لكن حدث ما كنت لا أتمناه، وشعر الجمهور بالنفور من المسرح الأسطوري.ثم فتح باب النقاش، وقد أثار محتوى المحاضرة تساؤلات عديدة تمحورت حول معالجة فكرة الموت والبعث مسرحياً. بدوره، أكد الدكتور مصطفى جمعة أهمية وعي المخرج بالأسطورة التي يقدمها، مشيراً إلى ضرورة تدعيم العرض بمفردات مسرحية تساهم في جذب المتلقي، متسائلا عن أسباب استدعاء الأسطورة في المسرح راهناً، كما أن عنوان مسرحية «كالا والنار» للشاعر محمد صرخوه ساهم في إضعاف العرض، بينما أكد حمد الرقعي أن ثمة مقاييس معينة يجب توافرها في العمل الأسطوري.
توابل - ثقافات
السعيد: المسرح الأسطوري... ثوابت بنيوية تكرس لمعنى الإنسان
18-10-2012