مرت ذكرى استشهاد الإمام علي عليه السلام في 17 رمضان 40هـ 25 يناير 661م، وأحيت الحسينيات الشيعية ذكراه، ويهمنا في هذه المناسبة بيان المشروع الإصلاحي للإمام علي كرم الله وجهه، وهو أول مشروع إصلاحي في التاريخ الإسلامي يهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والنزاهة في الحكم والقضاء على الفساد والمحسوبية والإثراء غير المشروع.

Ad

ومن يتأمل المشهد السياسي في الساحة يوقن أن بعض ساسة العرب لا يتعلمون من دروس التاريخ، فما أشبه ما يحصل اليوم في المشهد السياسي العام بما حصل قبل 1356 سنة، حين تولى الإمام علي الخلافة عن طريق بيعة شعبية عامة ومباشرة.

فذهب إليه الناس كأمواج البحر وتزاحموا على بابه وهو يمتنع عليهم ويقول: التمسوا غيري، لكنهم لم يتركوه حتى بايعوه جميعاً وتمت الخلافة بعد مقتل عثمان رضي الله تعالى عنه على يد الثوار الذين أتوا من الأمصار وتحصنوا بالمدينة مطالبين بسياسة إصلاحية جديدة، لكن الخليفة لم يتمكن من تنفيذها بسبب البطانة التي زينت له عدم الاستجابة لهم واستخدام العنف ضدهم.

وإذ رفض عثمان استخدام العنف وسلم أمره إلى الله تعالى، وأراد الإصلاح إلا أن الآوان قد فات والأمور خرجت عن السيطرة، فكان الثوار يحتلون ظاهر المدينة، ويطالبون بعزل الولاة الذين أثروا من غير وجه حق، وكان الخليفة يعدهم في كل مرة بالإصلاح ولا يستطيع الوفاء به، فلما طالبوه بخلع نفسه أبى قائلاً: لا أنزع قميصاً ألبسنيه الله عز وجل، وهكذا بدا المشهد السياسي وكأن كل الحوادث تصب في طريق واحد وتسير إلى نهايتها المحتومة في أفجع الحوادث الدامية في تاريخنا.

من يتأمل هذا المشهد ويقارنه بما هو حاصل في الساحة من ثورات شعبية تطالب بالتغيير وتلكؤ النظام وتسويفه ومراوغته كسباً للوقت ومراهنة على وهن الثوار، حتى إذا فات الأوان تظاهر بالاستجابة لكن المطالب تتصاعد لتطالب بتنحي الرئيس، من يتأمل هذا يجد خيطاً مشتركاً بين المشهدين.

ولعل أبلغ الدروس التي علينا استيعابها وتحصين مجتمعاتنا بها أمام هذه العواصف هي: إن طول مكث الحاكم في السلطة مع ضعف الرقابة والمحاسبة ينتج أوضاعاً ظالمة، وفساداً عريضاً وطبقة مترفة تحيط بالحاكم، وتزين له عمله، وتوهمه بحب الناس ورضاهم عن سياسته، وهم بذلك يحمون مصالحهم ويستديمونها ويعزلون الحاكم عن الواقع المعاش.

لقد تولى عثمان رضي الله عنه الخلافة ببيعة عامة، ومضت السنون الأولى من خلافته على خير وجه، حتى إذا طال مكثه في السلطة وتغيرت الأحوال حيث أمعن الخليفة في الشيخوخة، واستمرأ الأعوان النعم مع لين الخليفة ولين الرغد والمتاع، كان من الطبيعي أن يفرز هذا الوضع تلك الإفرازات التي دفعت الناس إلى التمرد والتذمر من سياسة الحكم.

في هذا الجو المشحون، حيث كان الثوار قد استولوا على عاصمة الخلافة ونهبوا بيت المال وأحدثوا فتنة عظيمة، وهي أوضاع تعقب كافة الثورات قديماً وحديثاً، قبِل الإمام علي كرم الله وجهه تحمل المسؤولية ليعيد الاستقرار وليأمن الناس على أنفسهم، وليحمي دولة الإسلام، وليعيد العدل ويفرض هيبة الدولة.

إذ ورث تركة من المظالم والفساد عظيمة، فما أسهل الهدم وما أصعب البناء، وهي مهمة شاقة تواجه كل من تحمل المسؤولية في أعقاب الثورات، ولكن الإمام هو رجل المهمات الصعبة، ولم يكن في المدينة من هو أصلح منه. وضع الإمام مشروعه الإصلاحي عبر إجراءات سريعة من أبرزها:

1- المسارعة بعزل الولاة الظلمة ورد ما أخذوه بغير حق من أموال وضياع، وهذا ما أثار رد فعل هؤلاء ضد مشروعه الإصلاحي فكوّنوا جبهة معادية، لكن الإمام رفض أي مساومة أو تسويف أو تهاون في هذا الأمر، فهو رجل المبادئ الذي لا يقبل أنصاف الحلول مهما كانت المصاعب والتحديات.

2- استخلاص المدينة من الثائرين، فقد كان الثوار وهم خليط من الأمصار انضم إليهم أعراب المدينة يحكمون المدينة حتى إذا أصبح الإمام خليفة أمرهم بالعودة إلى منازلهم وأمصارهم، فلا بد أن تسترد هيبة الدولة ويعود الاستقرار والأمان.

3- التحقيق في مقتل الخليفة عثمان والاقتصاص من القتلة ولكن ذلك كان مرهوناً باستقرار الأمور.

4- إعادة وحدة الصف الإسلامي، كان الإمام يؤثر حقن الدماء ما استطاع، وكان همه توطيد أركان الدولة وحماية حدودها واختيار الولاة الصالحين، ولذلك بدأ حكمه بمخاطبة معاوية طالباً منه البيعة لكنه لم يتلق رداً.

5- رد الأموال والقطائع إلى بيت مال المسلمين من هؤلاء الذين استولوا على هذه الأموال والقطائع، ولذلك ناصبوه العداء وجهدوا في إفشال مشروعه بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة.

6- التسوية في العطية، فقد جاء مال كثير وقام الإمام بتوزيعه بالعدل بين المسلمين جميعاً من غير تفضيل لأحد لقرابة أو سابقة، مخالفاً بذلك ما كان يفعله عمر رضي الله عنه، ولكن الإمام احتج بأن الرسول كان يقسم بالسوية بين المسلمين من غير تفضيل أحد، لقد كان هذا المنهج في التوزيع هو المناسب بعدما تعمقت الطبقية وتراكمت الثورات عند البعض وزاد الفقر وعانى الناس التمييز.

7- مراقبة العمال والولاة ومحاسبتهم إذا ظهر أي انحراف أو استغلال للنفوذ أو السلطة في الإثراء غير المشروع طبقاً لمبدأ: من أين لك هذا؟ الذي سنه الرسول- صلى الله عليه وسلم- وطبقه عمر رضي الله عنه.

8- إبقاء كبار الصحابة حوله لاستشارتهم وتجنيبهم الدسائس والفتن والغواية.

9- تفعيل قاعدة الشورى، فقد كان الإمام حريصاً على تربية الناس على حرية التفكير وشجاعة التعبير، فكان كثير الاستشارة مسرفاً فيها، وكان لا يرى فضلاً لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ومن أجل ذلك أحبه الموالي وأهل الذمة كما أحبه أهل الورع وأهل التقوى من العرب، وكان لكل فرد في جيشه رأيه المستقل، ومن حقه أن يناقش قائده ولا يذعن إلا إذا اقتنع.

10- تغيير البيئة المجتمعية: إن نجاح مشاريع الإصلاح رهن بتغيير البيئة المجتمعية الحاضنة، ومن هنا كان الإمام حريصاً على دعم مشروعه بهجوم ثقافي لإحياء قيم العدل والصلاح في النفوس كما يقول الشيخ حسن الصفار.

وبالعودة إلى المشهد السياسي المعاصر فإن التحدي الكبير أمام الشعوب التي نجحت في إسقاط النظم السابقة، هو القدرة على تغيير الثقافة السياسية للمجتمع لا مجرد تغيير الأشخاص والنظام؛ لأن الثقافة التي أنتجت شخصيات مستبدة في ظل النظام السابق ستنتج شخصيات أخرى فاسدة ومستبدة في ظل النظام الجديد، بمعنى أنه قد يرحل الدكتاتور ولا ترحل ثقافة الدكتاتورية.

إن تغيير الثقافة المجتمعية مهمة عسيرة وتتطلب زمناً وجهوداً مضنية، لكن القائمين على أمرها يستطيعون وضع اللبنات الأولى للديمقراطية، وإن من أهم الخطوات غرس ثقافة الحوار وقبول الآخر ومنع التخوين والتكفير. وللإعلام دوره في تأسيس البنية التحتية للديمقراطية: قيماً وسلوكاً وممارسة وتربية، وإنه من الأجدر للثوار الجدد الانشغال بأمور البناء والمستقبل بدلاً من تصفية الحسابات والانشغال بالماضي، ونستحضر هنا أخلاقيات الإمام في تعامله الإنساني مع الشخصيات المسؤولة في عهد عثمان، إذ كان يؤثر العفو والتسامح.

الأخلاقيات السياسية للإمام شكلت نموذجاً رائعاً في الأدب السياسي الإسلامي وبخاصة في مسلكه مع خصومه، هذه أبرز ملامح المشروع الإصلاحي للإمام خلال فترة حكمه القصير، وكان يمكن لهذا المشروع أن يثمر ويحقق نقلة نوعية في ثقافة المجتمع لولا أن القوى المضادة تكاتفت لإفشاله بكل الطرق عبر استخدام وسائل العنف المسلح في 3 معارك: الجمل، صفين، النهروان، حيث تمكن أحد الخوارج من طعن الإمام على باب المسجد فتوفي رضي الله عنه في 17 رمضان 40 هـ.

* كاتب قطري