غياب المفكر

نشر في 30-10-2012
آخر تحديث 30-10-2012 | 00:01
 ناصر الظفيري في هذا العصر الذي انتصرت فيه غوغائية الحوار وعقم الجدال ولجوء الأغلبية الساحقة من أصحاب القلم والصوت العالي إلى النزاع البغيض وتأصيل حالة الافتراق وتغييب العقل والفكر نحن بحاجة لمفكر حقيقي. نحن بحاجة لعقول مستنيرة واعية تدرك ما يحدث وتستطيع فك طلاسمه وإعادة النور والتنوير للعقول المنساقة خلف صراعات تاريخية. نحن نعلم ويعلم غيرنا أن المؤسسات الغربية التي تخطط لمستقبلها تمتلك مدارس فكرية ومؤسسات مستقلة ومراكز دراسات وأبحاث يقوم عليها مفكرون يرسمون مستقبل بلادهم ومستقبل بلادنا أيضاً، وتقدم هذه النخبة أفكارها لمتخذي القرار ورجالات التخطيط لا لفترة آنية بل لسنوات طويلة قادمة. ليس بإمكاننا أن نعرف اليوم الرؤية الحقيقية لهذه الدراسات وإنما ننتظر خمسين عاماً حتى تفرج هذه المؤسسات عن أرشيفها.

طوال السنوات الماضية وتحديداً منذ انهيار النظام العربي بأحداث عام 1990 واحتلال الكويت واختلاط الأمر على كثير من المراقبين ومفكري ما قبل تلك الفترة وأنا أحاول أن أتابع مفكراً واحداً يمتلك صوتاً عقلانياً من المحيط إلى الخليج فلا أجد. منذ تلك الفترة أصبحت الأصوات المطروحة إما سياسية لا تفقه ما هي السياسة وإما دينية لا تعي معنى الدين الحقيقي. في العشرين سنة الماضية دخلت التكنولوجيا الكونية عالمنا وقرّب الفضاء أبعاد الكرة الأرضية حتى أصبح بإمكان المواطن في أي بلد كان أن يرى كل ما يدور في هذا الفضاء المليء بالصراخ والنواح والشتائم وصراع الأيدي والأفواه دون أن يجد صوتاً واحداً عقلانياً يستطيع أن يقدم للناس فكراً متزناً أو معرفة بما يجري حولنا من أحداث.

أمتلك جهازاً بحجم الكف متصلاً بكيبل الإنترنت ينقل أكثر من خمسمئة قناة من المحيط إلى الخليج، ليس مصادفة، أن تحتل القنوات الدينية والسياسية الهامش الأكبر من هذا الزخم العددي وما تبقي ترك للأغاني الهابطة والأفلام. وتنقسم القنوات الدينية، وليس مصادفة أيضاً، إلى سنية وشيعية لتتناحر فيما بينها على التاريخ ورجالات التاريخ ونسائه ومحاكمة رجاله الذين رحلوا عن عالمنا قبل قرون طويلة لنعيش اليوم في ثيابهم ونستعيد حروبهم ونسقط تعاليمهم وحضارتهم. لم أر رجلاً واحداً يتحدث عن علم الفلك لدى المسلمين أو علم الجغرافيا أو الرياضيات أو الطب أو الريافة أو الفلسفة اليونانية وإضافات المسلمين إليها والتي نقلها الغرب دون أن ينكر فضلنا في ذلك. ورأيت كل شيوحنا ومعلقينا  يتحدثون عن معركة الجمل. وبالرغم من أن الحديث عن العلوم الإسلامية القديمة ليس مجدياً في ظل تطور العلوم الحديثة اليوم ولكنه ربما كان مشجعاً لأن نتذكر ما قمنا به من حضارة بدلاً من استعادة ما كان عليه أسلافنا من خلاف. وأستطيع أن أجزم بأن أغلب الشيوخ المحاضرين لا يعلمون شيئاً عن تلك العلوم لاهتمامهم بالتاريخ والتاريخ فقط.

في هذا الصراع المذهبي، وأكرر الذي اشتعل من غير مصادفة، ما ينبئ بأننا على مشارف أزمة أكبر من تصورنا وأننا نساق اليها دون إدراك لتبعاتها المدمرة في الغياب المتعمد للعقل أحياناً وغير المقصود أحياناً أخرى. في ظل هذا الصراع نحن بحاجة إلى مدرسة فكرية عقلانية يمكنها أن توقف هذا العبث بمستقبلنا جميعاً. مدرسة تخرج شبابنا المتحفز للصراع الذي شغله به رجالات الدين واستطاع أن يضعه في صفين متناحرين للذود عن حروب الماضي وفتنه وإعادتها إلى الحياة إن أمكن. ما سيأتي إذا استمر الوضع كما هو لن يترك ثوباً لا تمس أطرافه النار. ألا هل بلغت اللهم فاشهد.

back to top