تيرينس مالك المخرج والكاتب السينمائي الأميركي- اللبناني الأصل، يظل مبدعاً مختلفاً ومثيراً للجدل طوال مسيرته الفنية وبأفلامه الأربعة الأشهر: الأرض الشريرة، أيام الجنة، الخط الأحمر الرفيع وأخيراً شجرة الحياة وهو موضوع هذه المقالة.

Ad

السينما الأميركية – كما يبدو للمتابع - كانت ولا تزال تعتمد على تقنيات الإبهار والآكشن، وتكريس صورة البطل الأوحد والأجمل والأقوى، والترويج للحلم الأميركي، ناهيك عن تمرير الكثير من الأفكار والقيم المضخّمة والمفخّمة عن الواقع الأميركي كأرض وشعب. إلا أن تيرينس مالك يبدو بأطروحاته الفلسفية الروحانية الماورائية، وكأنه يغرّد خارج سرب البضاعة الأميركية المتداولة.

 بالرجوع إلى سيرة مالك الذاتية، يمكن أن يلاحظ المتأمل ظلال هذه السيرة في أعماله السينمائية. فهو قد درس الفلسفة في هارفرد ودرّسها في معهد ماساتشوسس لاحقاً، وعمل في الصحافة ردحاً من الزمن. ويبدو أنه كإنسان ظل مشغولاً بأسئلة الفلسفة الكبرى حول الكون والخَلْق، وماهيات الله والزمن والحياة والموت وما وراء الطبيعة، شاخصاً بلا نهاية في حيرة الإنسان أمام هذا الوجود الضاج بالرهبة والغموض. وكان الاشتغال على هذا العالم الهلامي الملغز سينمائياً هو التحدي الأكبر في فيلم (شجرة الحياة – The Tree Of Life).

  شاهدتُ الفيلم على (اللاب توب)، ثم رجعت قبل الشروع في كتابة هذا المقال إلى نماذج من المراجعات الصحافية حول الفيلم نشرت في كل من (الغارديان) و(الأبزيرفر) و( النيويوركر)، وقرأت جملة من الآراء التي شرّقت وغرّبت. ولكن يظل للفيلم في رأيي، رغم هذه التمهيدات المعلوماتية، زواياه النفسية والإنسانية المحضة التي تخصّ كل إنسان على حدة، وتجعله شاخصاً في ذلك النثار الغرائبي الماورائي الذي يحاكي نشأته الأولى وغربته الكونية ورهبته أمام وجود بهذا التعقيد والاتساع. وكم كنتُ أتمنى لو أتيحت لي المشاهدة في دار سينما وليس اللاب توب، ففيلم مثل هذا صُنع للشاشة الكبيرة وبتقنية الأبعاد الثلاثة.

 ليس للفيلم حكاية أو (حدوتة)، وإنما هو عبارة عن مشاهد من عوالم شتى، تأخذك إلى بداية الخلق، حين كانت السموات والأرض رتقاً، إلى أن تفتّقت إلى أمواه وبحار وبراكين وأبخرة وغابات، ثم إلى أن تكونت الأميبيا في خلاياها الأولى وانقسمت، ثم تشكلت في الديدان وقناديل البحر والديناصورات. وبلا سياقات زمنية تتمظهر حياة الإنسان في بدايات الفيلم وخلاله ونهاياته، وهو (يعيش) الحياة ابناً أو أباً أو أماً، في بيته أو غرفة معيشته أو عمله، يدب مع دبيبها وينتظم مع قوانينها الطبيعية، يحنو ويغضب ويسعد ويحزن ويقسو ويحيا ويموت. هكذا يعيش حياته ذرة في هذا الكون، ينوس مع لحظاتها وظروفها وأيامها، أحياناً بهدف وقصد، وأحياناً أخرى تأتي حركاته وسكناته آلية مفرطة في لامعناها، اللهم إلا التذكير بأنه كأية خلية من خلايا الحياة الأخرى غير العاقلة، يسبح في ذات المدارات والأفلاك.

 صحيح أن هناك بعض التلميحات في الفيلم إلى حادثة موت، وحزم أب، ورعاية أم، وذكريات معلقة، وطفولة مموّهة، إلا أن هذه الأحداث تبدو غائمة ومفككة. بل لكأنها مجرد لوحة خلفية بظلالها الشبحية وحواراتها الأشبه بغمغمات لا تبين. وتأتي الموسيقى الغنية المفرطة في فطرتها وبدائيتها، وكأنها تنبعث من وراء القرون، بل لكأنها همهمات وصيحات الأصوات الأولى حين بدء الخليقة، مضيفة مزيداً من التمويه الجميل على العمل الفني بكامله.  

 وعليه فمتعة الفيلم الحقيقية هي متعة بصرية وروحية محضة. ومن يُرد البحث عن قصة الفيلم أو حبكته أو تطور شخصياته أو تقنياته الحوارية وسياقاته الزمنية، أو غيرها من عدة النقد المدرسي، فسوف يصاب بخيبة أمل كبيرة. فالفيلم ليس من الأفلام الجماهيرية، ولن يرضيَ غير ذوق النخبة كما أعتقد. وهو بخروجه عن دائرة ما اعتاد عليه الجمهور، يسجل ولا شك علامة مميزة في القدرة على إخضاع أكثر الموضوعات الفكرية تجريدية وغموضاً لتقنيات الشاشة المرئية.