هناك عبارة شهيرة متكررة تقول: "العقول الكبيرة تتناقش حول الأفكار، والعقول العادية تتناقش حول الأحداث، والعقول الصغيرة تتناقش حول الأشخاص"، إلا أنه وبالرغم من إعجابي بهذه العبارة، فلست أؤمن بها تماماً، بل أؤمن بأن العقول الكبيرة تتناقش حول الأفكار والأحداث والأشخاص، ولكنها تدرك في الوقت نفسه تماماً متى وأين وكيف تصرف جهدها لتتناقش حول كل واحدة منها. العقول الكبيرة قادرة على التمييز والفصل بين الأشياء وفقاً لضرورات ومتطلبات اللحظة والمرحلة والظروف، وأما الآخرون فيعجزون عن ذلك، لذلك تراهم يستغرقون في المناقشات الخطأ في الوقت الخطأ وفي الظروف الخطأ!

Ad

من ينظر إلى الخطاب السياسي المحلي السائد طوال الفترة السابقة، وهي فترة يمكن لي أن أصل بها إلى عقدين ماضيين من الزمان بسهولة، أقول إن من ينظر إلى خطاب تلك المرحلة حتى الساعة، سيجد أن هذا الخطاب مستغرق في المجمل في نقاشات طويلة عريضة حول الأحداث وغالباً حول الأشخاص، وأما مناقشات الأفكار والخطط والسياسات فتكاد تكون غائبة تماماً عن المشهد.

وبطبيعة الحال، كانت نتيجة هذا الاستغراق في غير المهم على حساب المهم أن عجلة التنمية والإصلاح الحقيقي قد شلت تماماً، وتوقف سائر الأمر عن الإتيان بأي ثمرة، وكان قصارى ما هنالك أحداث ساخنة متتالية تتسارع، وأسماء تبزغ وترتفع ثم تسقط، بلا فائدة تذكر!

بالأمس وعلى سبيل المثال، وفي جلسة البرلمان لـ"استجوابي" وزير المالية، والتي انتهت إلى مسرحية هزلية ركيكة أخرى، شارك في تمثيل أدوارها الحكومة والنواب على حد سواء، لم تكن المناقشات ولا مسارات الأمور برمتها تتجه نحو الفكرة. أعني نحو فكرة أن هناك مساءلة مستحقة للحكومة ممثلة في وزيرها، على خلفية محاور جديرة بالمناقشة إما التفنيد وإما المعالجة والإصلاح، وإنما انحدرت نحو ما إذا كان يصح دمج الاستجوابين أو لا يصح، وكان نقاشاً "بيزنطياً"، وكان واضح أن الحكومة تقصدت افتعاله بغية قلب الطاولة وخلط الأوراق، ليقع في فخه نواب ما يسمى بكتلة الأغلبية، غير المنظمين أساساً بحسب ما هو واضح من نواتج عملهم طوال الفترة الماضية!

انسحاب الحكومة من الجلسة، بطريقة أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها تخريبية مقصودة، وذلك بالرغم من وجود لائحة داخلية تفيد بصواب أن يتم دمج الاستجوابات المتشابهة إن أراد البرلمان ذلك، وعجز كتلة الأغلبية، ممثلة برئيس البرلمان نفسه، عن التعامل سريعاً مع هذا المقصد الحكومي التخريبي، والسماح لها بجرهم نحو هذه المعركة الهامشية، هو دليل ساطع على أن وقت وجهد هذا البلد وتطلعات شعبه وطموحاته إلى مستقبل أفضل، كانت ولاتزال تهدر بل تذبح جميعها ليل نهار بلا طائل.

ما حصل بالأمس ليس سوى مثال بسيط، من مسيرة طويلة ملطخة بعشرات الأمثلة من الاستغراق في المناقشات والصراعات الهامشية التي لم تضف إلى رصيد هذا الوطن شيئاً، فقبل مسرحية جلسة الأمس، كان الحديث الدائر في كل الأروقة ولأسابيع ممتدة، كله حول "مسلم" و"عبيد"، وقبلها كان عن "جويهل" وقبلها عن "القلاف" وعن ذاك وذاك وذاك، وعمّا قالوا وما فعلوا، في حين لا حديث سائد عن فكرة إصلاحية أو خطة تنموية أو عمل منتج أو ثمرة متحصلة!

غالبيتنا اليوم، وللأسف، أسرى لهذا الاستغراق الساذج في الهامشيات، اللهم إلا قلّة، وإن كانت لاتزال هذه القلة حتى اللحظة عاجزة عن القيام بشيء يذكر في وجه هذه العدوى الكاسحة التي أحاقت بالأكثرية. وكلما استغرق غالب القوم في الهامشيات، ساءت الأمور أكثر، وابتعدنا عن المسار الصحيح، وازددنا تيهاً.

يا سادتي... إن كل هؤلاء الأشخاص وكل هذه الأحداث ليسوا هم القضية أبداً، فالأشخاص، كائناً من كانوا، سيرحلون والأحداث سرعان ما يطويها النسيان كما طوى عشرات الأحداث التي كانت ملتهبة. لكن القضية الحقيقية هي المعاني والدلالات والأفكار الناتجة عن هذا كله، والأهم من ذلك هو العمل الحقيقي القائم استناداً إليها. ومادمنا لم نصل إلى شيء من هذا، فكل ما يجري ليس سوى مضيعة للوقت، أربأ بنفسي شخصياً عن المشاركة فيها.