لا بد من تقييم سياسة «ضبط العلاقات» بين موسكو وواشنطن!
اتخذ بوتين خطوات تصعب على أوباما التقرب من موسكو سياسياً بدءاً من اعتبار المنظمات غير الحكومية الممولة من الخارج «عميلة للخارج» وصولاً إلى وقف نشاط الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في روسيا بعد 20 عاماً على عملها هناك.
بعد فوز الرئيس أوباما بولاية رئاسية ثانية، ما من سياسات خارجية تحتاج إلى إعادة تقييم أكثر من السياسة تجاه روسيا.أدت الأحداث الأخيرة إلى تبخر الوعد الذي صدر في عام 2009 بإعادة ضبط العلاقات. كذلك، تلاشت إنجازات تلك السياسة (معاهدة "ستارت" الجديدة، والتعاون بين أفغانستان وإيران، وانضمام روسيا إلى منظمة التجارة العالمية) وحلت مكانها خلافات عقيمة حول سورية وإيران ومسائل مهمة أخرى تزامناً مع ارتفاع حدة الخطاب العدائي في العاصمتين.
سيحاول أوباما الآن عكس هذا التدهور في العلاقات عبر إظهار "المرونة" التي وعد بها قادة روسيا في وقت سابق من هذه السنة. تحدث بوتين من جهته عن منح "طابع جديد" لتلك العلاقات من خلال إضافة بُعد اقتصادي قوي. قد نسمع كلاماً عن مرحلة ثانية من سياسة إعادة ضبط العلاقات. وقد تُعقَد صفقات إضافية كتلك التي حصلت بين شركتّي "إكسون موبيل" و"روسنفت".لكن يجب ألا تُخفي التركيبات السطحية ومشاريع الطاقة الكبرى الخيار الجوهري الذي تواجهه الإدارتان: متابعة مقاربتهما المهنية في العلاقات الثنائية مع كل ما يرافقها من تقلبات، أو وضع العلاقات ضمن إطار استراتيجي واسع وطويل الأمد يمكن أن يولد علاقات بناءة ودائمة.يواجه الاختيار الأول مشكلتين:أولاً، يصعب أن نحدد المجالات التي يمكن أن تشهد تقدماً ملحوظاً خلال السنوات الأربع المقبلة.بسبب تقليص الأسلحة النووية (هذه المسألة هي من الأولويات الأميركية)، ستشتد المخاوف الروسية من الدفاع الصاروخي الأميركي والأنظمة الاستراتيجية غير النووية، تزامناً مع الاقتراب من العتبة التي تسمح لقوى الصين والهند وباكستان بالتأثير في الميزان النووي العالمي.تماشياً مع تركيز بوتين الأخير على التجارة والاستثمار، لا بد من توافر مناخ عمل مختلف في روسيا، على أن يشمل إرساء حكم القانون والاحتكام إلى الكفاءة والحكم النزيه. أثبت الملف السوري أن التعاون المثمر في الصراعات الإقليمية يتطلب التعامل مع المبادئ القديمة التي تحكم النظام العالمي، مثل السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، فضلاً عن ميل الغرب إلى استعمال القوة لحماية الشعوب الخارجية من القادة الوحشيين.لن تعود الولايات المتحدة إلى تطبيق سياسة إبداء المصلحة الوطنية ولن تتخلى روسيا عن دعمها للنظام التقليدي. بشكل عام، لن تحصل مقايضات سهلة.ثانياً، لا تبدو الظروف السياسية المحلية في أيٍّ من البلدين مهيأة للتوصل إلى مقايضات مماثلة. نتيجة إصرار واشنطن على التعامل مع الحكومة الروسية والمجتمع الروسي في آن، اتخذ بوتين خطوات تصعب على أوباما التقرب من موسكو سياسياً (بدءاً من اعتبار المنظمات غير الحكومية المموَّلة من الخارج "عميلة للخارج" وصولاً إلى وقف نشاط الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في روسيا بعد 20 عاماً على عملها هناك).يرسخ قانون ماغنتيسكي، الذي يدعو إلى فرض العقوبات على المسؤولين الروس الذين ينتهكون حقوق الإنسان، واقعاً غير مسبوق يمكن أن يتوسع (نظرياً على الأقل) ليشمل أي عضو بارز من النظام الراهن. في المقابل، تبدأ أي مقاربة استراتيجية بالتحول الجيوسياسي الذي انطلق الآن في أنحاء العالم وبتحديد الأمور التي تجعل من كل بلد مكسباً استراتيجياً بالنسبة إلى البلدان الأخرى.يمكن أن تؤثر روسيا (ولو بفضل المعطيات الجغرافية حصراً) والولايات المتحدة (بفضل نفوذها العالمي) على نشوء ميزان جيوسياسي جديد في أوراسيا. لا تتصادم المصالح الاستراتيجية في البلدين بالضرورة، بل ثمة تداخل مهم بينهما على الأرجح نظراً إلى وجود مخاوف مشتركة من الصين والمتطرفين الإسلاميين ومن تنافس قوى من خارج المنطقة على موارد القطب الشمالي.على صعيد آخر، ثمة عنصر اقتصادي مهم في هذه التوازنات كلها التي يمكن أن تشجّع على إقامة علاقات مثمرة مع الولايات المتحدة وقد تكون أساسية كي تصبح روسيا نظاماً اقتصادياً معاصراً (إنه أحد أبرز الأهداف الاستراتيجة الوطنية الروسية).لكن في هذه الحالة، لا بد من معرفة كيف ستسخّر الولايات المتحدة وروسيا علاقتهما بما يخدم أهدافهما الاستراتيجية الخاصة.حتى الآن، رفضت الإدارة الأميركية والكرملين تطبيق مقاربة استراتيجية. لم تذكر وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون شيئاً عن روسيا في مقالتها حول التوجه الاستراتيجي نحو آسيا في صحيفة "فورين بوليسي" منذ سنة، مع أن روسيا كانت تستعد حينها لاستضافة قمة التعاون الاقتصادي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ في فلاديفوستوك في سبتمبر 2012 لتأكيد نيّتها استعادة موقعها كقوة آسيوية، وكانت تؤدي دوراً محورياً في نقل الإمدادات إلى القوات الأميركية في أفغانستان.ألغى بوتين مشاركته في قمة مجموعة الثماني في شهر مايو الماضي في كامب ديفيد في اللحظة الأخيرة، وهو أمر لم يسبق أن فعله أي زعيم في العالم.من الجانب الأميركي، ينجم هذا الشرخ في العلاقات عن انزعاج الولايات المتحدة من فكرة توسع النفوذ الروسي منذ حقبة الحرب الباردة. بعد مواجهة القوة السوفياتية لفترة طويلة، لا تتقبل الولايات المتحدة فكرة أن تتمكن روسيا يوماً من أداء دور إيجابي يخدم المصالح الاستراتيجية الأميركية.من الجانب الروسي، يسود بغض شديد بسبب طريقة تعامل الولايات المتحدة مع روسيا بعد نهاية الحرب الباردة، ويشتبه الكثيرون بأن السياسة الأميركية تهدف في الأساس إلى إضعاف روسيا اليوم.آن الأوان للتغاضي عن الانزعاج وعدم الثقة المتبادلَين، فبعد مرور عقدَين على انتهاء الحرب الباردة، ما عادت روسيا والولايات المتحدة خصمَين إستراتيجيَّين، ويمكنهما أن يتحوّلا إلى شريكَين في هذا العالم الناشئة المتعدّد الأقطاب.من الضروري اختبار هذا الاقتراح اليوم، فمن الضروري أن يبدأ كلا البلدين حواراً استراتيجياً عالي المستوى لفهم تفاعلات عالمنا المتبدل والطرق التي تؤثر بها على المصالح الاستراتيجية لكل منهما، وتحديد ما إذا كانت هذه المصالح متداخلة بما فيه الكفاية لبناء علاقة تعاون طويلة الأمد.ما من ضمان أكيد أننا سنتوصل إلى اتفاق، فقد يكشف الحوار الاستراتيجي خلافات لا يمكن تذليلها، لكن الفوائد المحتملة لأي تعاون استراتيجي تبرر بذل جهد مماثل.Thomas Graham و Dmitri Trenin