حماقات بروكلين لبول أوستر في البحث عن الموت بسلام
صدرت عن دار «المدى» رواية «حماقات بروكلين» للكاتب الأميركي بول أوستر الذائع الصيت في فرنسا، وليست المرة الأولى التي يترجم فيها إلى العربية، فسبق أن صدرت له روايات «ليلة التنبؤ»، «الغير مرئي»، «رجل في الظلام» وغيرها من الروايات.تبدأ «حماقات بروكلين»، التي صدرت حديثاً بترجمة أسامة منزلجي، بجملة «كنت أبحث عن مكان هادئ أموت فيه، واقترح أحدهم بروكلين»، يقول الراوي الذي لا يجد غير الحياة والخلاص في المدينة.
ناثان بطل الرواية التي حملت إيماءات عدة إلى كافكا، موظف كبير في شركة تأمين نجا لتوه من سرطان الرئة وزواج فاشل. يبحث بعد طلاقه عن معنى جديد لحياته في حياة الآخرين، لجأ الى بروكلين حيث يقرر الاستقرار. هناك يلتقي ابن اخته توم وود الذي فقد الاتصال به منذ مدة طويلة، ويكتشف أن الشاب اللامع الذي كان يحضّر دكتوراه في الأدب الإنكليزي تحوّل موظفاً في مكتبة بعدما عمل سائق تاكسي لفترة. توم الطموح الذي كان من المفترض أن يكمل دراساته العليا في الأدب المقارن، والذي يهجر ذلك كله ويعمل سائق تاكسي، محملاً تلك المهنة أبعاداً فلسفية وجمالية تتراوح بين «التموج، والطوفان، وفقدان الوجهة التي يقررها شخص آخر، وعلى شيء من عبث الآلهة بالمصائر»، وليعمل بعد ذلك مع هاري صاحب مكتبة كتب مستعملة وذو تاريخ يرويه له على دفعات ووفقاً لخيالاته وأمزجته. بعد روايات عدة نتعرف إلى ماضيه المتمثل بكونه صاحب غاليري، تنتهي به الحال إلى تزوير لوحات فنان كان يجني منه الكثير، ودخوله السجن بسبب ذلك، إضافة إلى مثليته، وكومة قصص تتضافر ليلتقي ماضيه بحاضره.ناثان وتوم يحاولان لملمة نتف حياتهما المبعثرة لتنضم إليهما في ما بعد الصغيرة لوسي ابنة التاسعة، وهاري برايتمان مالك المكتبة الذي يخفي حياةً سابقة مضطربة ومليئة بالأسرار. يمضي الراوي بطل الرواية في تزجية الوقت، يمضي في تأليف كتاب عنوانه «كتاب الحماقة الإنسانية» أو ما يشبه الكتاب، ذلك أنه يخطه على كل ما تقع عليه يده من إيصالات بطاقات الائتمان، والقروض الشخصية، ودفاتر الحسابات وما إلى هنالك من ما يتساقط ويستهلك من أرواق يومية، يدون الحماقات التي هي استعارة للحياة نفسها كونها أكثر تجلياتها سطوعاً، ذلك أن النوايا المعلنة لما سيتضمن كتاب ناثان ينحصر بزلات اللسان والأفعال الخرقاء التي ارتكبها في حياته أو عرفها لدى الآخرين.تنتهي الرواية في الثامنة صباحاً من 11 سبتمبر 2001، أي قبل 46 دقيقة فقط من تحطم الطائرة الأولى على البرج الشمالي لمركز التجارة العالمي في الولايات المتحدة الأميركية. زيرد في المقطع الأخير من الرواية: «أما الآن فإن الساعة لم تتجاوز الثامنة، وبينما أمشى على طول الجادة تحت تلك السماء الزرقاء البراقة، أنا سعيد، يا أصدقائي، سعيد كأي إنسان عاش على الأرض».من الروايةكنتُ قد أخبرتُ راشيل أنَّ أيامي باتت معدودة، لكنَّ ذلك لم يكن أكثر من ردٍ سريع متهوِّر على نصيحتها المتطفّلة، هبَّةٍ من المُغالاة الصِرف. كانت السرطان في رئتي قد خفَّتْ حِدَّته، واستناداً إلى ما أخبرني به طبيب الأورام بعد إجراء آخر فحص لي، هناك ما يدعو إلى التفاؤل الحذر. لكنَّ هذا لم يعنِ أني وثقتُ فيه. لقد كانت صدمة إصابتي بالسرطان شديدة جداً، بحيث أني لم أصدِّق أنَّ في استطاعتي أنْ أنجو منه. لقد استسلمتُ إلى فكرة الموت، وعندما استؤصِلَ الورم مني وعانيتُ الآلام الموهِنة للعلاج بالأشعة والمعالجة الكيميائية، عندما عانيت نوبات طويلة من الغثيان والدوار، وفقدان الشعر، والإرادة، والعمل، والزوجة، بات صعباً عليّ أنْ أتصوَّر كيف يمكن أنْ أستمر.بعيدة بروكلن. بعيدة عودتي اللاواعية إلى المكان الذي بدأتْ فيه قصتي. كنتُ في نحو الستين من العمر، ولم أكنْ اعلم كم بقيَ لديّ من الوقت. ربما عشرون سنة أخرى؛ ربما فقط بضعة أشعر أخرى. ومهما كان التكهُّن الطبي بحالتي، فالأمر الحاسم هو ألا أسلِّم بأي شيء. وما دمتُ حياً، يجب أنْ أجد سبيلاً للبدء بالعيش من جديد، ولكن حتى لو لم أعش، يجب أنْ أفعل أكثر من الجلوس وانتظار النهاية. وكالمعتاد، كانت ابنتي العالِمة على حق، حتى وإنْ كنتُ من فرط العِناد بحيث أعترف بذلك. يجب أنْ انهمـك في العمل. يجب أنْ أكفَّ عن الجلوس وأفعل شيئاً.