كثير من الناس مايزالون يعتقدون أن مشاهدة التلفزيون أو متابعة ما تعرضه الفضائيات من برامج حوارية ودرامية، ما هو إلا مضيعة للوقت وتبديد للطاقة. وأن العكوف على القراءة أو الانصراف إلى شؤون الحياة (المفيدة) أفضل وأنفع! ولكن يبدو أن هذا الاعتقاد يحتاج إلى إعادة نظر، خاصة ونحن نعيش عصر الصورة والشاشة في كل مفردات حياتنا المعاصرة، ابتداءً من الهواتف الذكية مروراً بالكمبيوترات المحمولة والآي باد، وانتهاءً بشاشات البلازما العريضة التي تحتل كل ركن من أركان بيوتنا. الأمر الذي تصبح به محاولة تجنب (المشاهدة) أو التقليل من شأنها ضرباً من المستحيل.

Ad

وعليه فإننا لابد أن نحمد الله ألف مرة في اليوم أن حبانا نعمة البصر ومتعة المشاهدة . ثم نتوجه بعد ذلك بالشكر والتقدير لكل العقول التي أوجدت لنا هذه الإمكانات المتطورة، وخلقت لنا هذه الحياة الموازية النابضة بالإثارة والثراء. تسألني ابنتي عن سر اهتمامي بمتابعة أحد المسلسلات الرمضانية التي تعرض على إحدى القنوات الفضائية، فأجيبها بأن السر يكمن فيما يقدمه من (حياة موازية)، ليس هي بالوهم ولا بالخيال، وإنما هي فعلاً حياة أخرى تسير على الضفة المقابلة. وأن متعة المشاهدة هي متعة أصيلة من متع الحياة السوية ، والحاجة إليها كحاجتنا إلى الفن الذي يغني العاطفة ويخصب المخيلة ويُحدث التوازن المطلوب.

مسلسلان من الدراما التلفزيونية حرصت على متابعتها هذا العام، هما "ساهر الليل / وطن النهار" و"الخواجة عبدالقادر". الأول أعادنا إلى حقبة مهمة من تاريخ معيش ما تزال آثاره عالقة في الذاكرة الشعبية، وهي فترة الغزو الصدامي. وتقديم هذا التاريخ درامياً يظل ديْناً لا بد من استيفائه عبر تضافر الجهود فنياً ومادياً. وإن كان طاقم التمثيل والإخراج بذل ما في وسعه وضمن إمكانياته من جهد يُشكر عليه، إلا أن العمل كان يُمكن أن يكون أكثر ثراءً وتأثيراً لو مُدّت له يد الدعم الفني والمادي من جهات أخرى حكومية وأهلية. وكان يمكن أن يكون مشروعاً وطنياً لتوثيق حدث الغزو سياسياً وشعبياً، وإن بثوب درامي لصيق بمشاعر الناس وذكرياتهم.

ويبقى الفضل الآخر لمسلسل "ساهر الليل" وهو قدرته على تقديم المواهب الأصيلة والواعدة، فإلى جانب أبطال المسلسل المعروفين كمحمود بوشهري وعبدالله بوشهري وهيا عبدالسلام، وقبلهم المخضرمون كجاسم النبهان ومحمد المنيّع، ظهرت وجوه شابة مثل يوسف البلوشي ومحمد صفر في دور الأخوين سالم وفهد على التوالي، وكان لأداء محمد صفر خاصة في المشاهد المؤثرة ميزة تُسجل لهذا الفنان الشاب. ورغم بعض الهنات التي شابت العمل، كإهمال التمهيد لحادثة الغزو في بداية المسلسل رغم توفر المواد الإخبارية حول التهديدات والادعاءات، وكاقتصار الشريحة الشعبية على عائلتين فقط، وكضعف الحلقة الأخيرة، وكالاستعانة بأفلام أرشيفية سيئة الجودة دون معالجتها تقنياً، فإنه من الانصاف أن نثني على جهود المخرج المتألق محمد دحام الشمري، الذي واصل العطاء على مدى أجزاء المسلسل الثلاثة وعبر ثلاث سنوات من العمل الدؤوب.

أما مسلسل "الخواجة عبدالقادر" فلعل جاذبيته تكمن في تقديمه لتلك الشخصية النامية عبر خط درامي مطّرد. فـ"هيربرت" الإنكليزي المسن القادم من بلاده إلى الشرق (السودان ثم مصر) وهو مثخن باليأس والكآبة، وممتلئ بالشك الوجودي، وطافح بالذكريات المريرة حول حرب عابثة أودت بأقرب الناس إليه، ثم سلمته لسوداوية قاتمة وإدمان مريض، هذا "الهيربرت" الذي مثل دوره الفنان يحيى الفخراني باقتدار، كان خامة جيدة لتلك الشخصية المتحولة. ورغم هذه المحن النفسية فقد ظلت روحه الكامنة محتفظة ببراءتها ونقائها، وحين حان طقس النقلة وإزالة الغشاوة، كانت الظروف المكانية والزمانية مواتية ليتحول "هيربرت" إلى "عبدالقادر"، وليبدأ مشواره نحو صراعات أخرى، كان الصبر والإلهام وإشراقات النفس أدواتها ووقودها.

أليست "المشاهدة" حياة موازية؟ أم تراها ثقافة العصر بحق؟