فجر يوم جديد: أفلام وألغام في دبي (1- 4) «خلفي شجر الزيتون»
في الكثير من الأحيان يتحول بعض الأفلام إلى قنابل موقوتة تنفجر في العروض الأولى في الصالات أو في عروض المهرجانات، مثلما حدث في الدورة التاسعة لمهرجان دبي السينمائي الدولي، الذي حفل بعدد من الأفلام التي أثارت جدلاً أغلب الظن أنه سيحتد ويحتدم مع التوسع في عرض الأفلام في المقبل من الأيام.أول فيلم كان بمثابة لغم خطير تمت السيطرة عليه، واحتواء شظاياه داخل جدران القاعة التي عرضته، حمل عنوان «خلفي شجر الزيتون»، بطولة وسيناريو وإخراج اللبنانية باسكال أبو جمرة، التي توغلت في منطقة شائكة للغاية عندما اختارت الاقتراب من أزمة ابنة عميل في «جيش لحد»، الذي تشكل بدعم من إسرائيل، تضطر وشقيقها الأصغر إلى الهروب مع والدها إلى إسرائيل، عقب انسحاب القوات الإسرائيلية من الجنوب اللبناني في مايو من عام 2000، وبعد عشر سنوات تعود وشقيقها بعد وفاة والدها إلى بلدتها في الجنوب. لكن الجميع، وعلى رأسهم صاحب المعصرة، لا يغفرون لوالدها جريمة العمالة للعدو، وهو ما يعبر عنه صاحب المعصرة بقوله: «لن يُسامحني أهل الضيعة إذا علموا أنني ساعدتك». ويؤكد لها أن «الغدر والخيانة لا يمكن نسيانهما سوى بالموت».
«الأبناء يدفعون ثمن جرائم الآباء»... هكذا أرادت المخرجة الشابة باسكال أبو جمرة أن تقول في فيلمها الروائي القصير الذي يتسم بالجرأة، ولا تغيب عنه روح التمرد، وإن بدت متعاطفة بدرجة محسوبة مع جيل وجد نفسه ضحية لجريمة لم يرتكبها، وإثم لا ينبغي أن يُسأل عنه أو يُحاسب عليه، وتبدو على قناعة بأن من حق أبناء «العملاء» أن يعودوا إلى أوطانهم ويندمجوا مع مجتمعاتهم، وعلى الجميع أن يرحبوا بهذه العودة، وألا ينبذوهم أو يتبرأوا منهم!لا تكتفي «باسكال» بهذه الرؤية المثيرة، والمدخل غير المسبوق في تناول قضية لم يتم التطرق إليها سابقاً في السينما العربية، لكنها لا تتخلى عن الحس الإنساني العذب، وهي تقدم قصة الشقيق الأصغر للفتاة الذي طُرد من المدرسة بعد اعتدائه على أحد زملائه لأنه سبه بأبيه «العميل»، وترصد مظاهر القطيعة التي فرضها أصحاب الضيعة على الفتاة، غير أنها تواصل مشوار الجرأة والتمرد إلى نهايته عندما تختتم فيلمها بالفتاة وشقيقها، وهما في طريق العودة إلى إسرائيل، بعد أن أغلقت أبواب الوطن في وجهيهما! هذه النهاية الصادمة التي استشعرت وأنا أتابع أحداث الفيلم، كيف كانت سبباً في زلزلة مشاعر الجمهور، وإلى أي حد زادت وتفاقمت بعد توجيه المخرجة عبر «تترات النهاية» الشكر إلى «حزب الله»، دعتني إلى سؤال المخرجة في الندوة التي أعقبت عرض الفيلم عن السر وراء الإشارة إلى «حزب الله»، فأكدت لي أنها عرضت السيناريو على «الحزب»، نظراً إلى أن أغلب مشاهد الفيلم تدور في الجنوب اللبناني، الأمر الذي تطلب موافقة قياداته التي لم تمانع، ولم تبد أي تحفظ على رؤية الفيلم.خطوة لا تخلو من ذكاء، لأن انتزاع موافقة «حزب الله»، والتنويه إلى هذا في «التترات»، جنَّبا المخرجة الشابة عواصف عاتية كان يمكن أن تضرب جسدها النحيل قبل فيلمها؛ فاتهام الفيلم بالدعوة إلى التطبيع كان وارداً بقوة؛ بدليل استنكار البعض عودة البطلة وشقيقتها إلى إسرائيل، ورأوا فيها هزيمة واستسلاماً وتسليماً، بل اعترافاً علنياً بأن «العدو» أكثر رحمة من «الأهل» و{الوطن»!أفلتت المخرجة اللبنانية الشابة باسكال أبو جمرة من الاتهامات، التي كانت تنتظرها، والعقاب الأكيد الذي كان سيلاحقها، بسبب وجهة نظرها المتمردة والمغايرة، وطرحها الجريء الذي يعكس طموح وجرأة جيل اختار طريقاً مختلفاً، وأسلوب تفكير غير معتاد وموضوعية لا يمكن تجاهلها، فضلاً عن الإنسانية التي تعاملت بها مع قضيتها، من دون أن تتجاوز «الخطوط الحمراء» المتعارف عليها في مثل هذه الأحوال؛ فالثوابت الوطنية مكفولة و{الخيانة» مرفوضة، لكن المخرجة عندما تؤكد أن «العمالة» جريمة لا تسقط بالتقادم فإنها ترفض أن تنتقل إلى الأبناء بالوراثة، وتُدرك يقيناً أن «الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون»!«خلفي شجر الزيتون» تجربة سينمائية مهمة لفتاة نجحت في فيلمها الأول، الذي يُعد مشروع تخرج، في أن تجد لنفسها هوية وخصوصية، بفضل بساطتها وحيويتها وتدفقها الإنساني، ووعيها السياسي قبل الفني.