إدوارد سعيد خارج مكانه (2 – 3)

نشر في 29-05-2012
آخر تحديث 29-05-2012 | 00:01
No Image Caption
 د. نجمة إدريس تأتي اللغة كركيزة ثانية للذات في سيرة إدوارد سعيد، لتعلن ارتباكها وتزعزعها في نفس الطفل، ثم اليافع، ثم الرجل الراشد. فبين الإنكليزية والعربية كان يتذبذب ويتأرجح، سواءً في بيته أو مدرسته أو وسطه الاجتماعي أينما حل. فقد كان لزاماً عليه أن يتكلم الإنكليزية في مدرسته، التي شكلت قلقاً لغوياً مربكاً، في مدينة كالقاهرة كانت لاتزال تناهض المحتل الأجنبي! وبين طلبة من أقليات بانورامية عجيبة ليس بينهم إنكليزي واحد، عدا المعلمين. أما في بيته فهناك توجه من الوالدين للتخاطب بخليط من العربية والإنكليزية والفرنسية، حسب المقامات والأحوال، رغم أنه كان يرين عليه – كما عبّر – الاعتداد والامتنان لإتقان أمه للعربية مخاطبة وكتابة. ولكن القلق الصريح من هذا التذبذب حول هويته اللغوية أفصح عن نفسه حين النهوض بكتابة هذه السيرة الحياتية. إذ إن عملية استرجاع أزمنة الطفولة والصبا في بيئات عربية، كالقدس والقاهرة وضهور الشوير، اقتضت أن تنبثق في الذاكرة بأجوائها ومرجعياتها العربية لغةً وتعبيراً. ولكن من جهة أخرى، كان لزاماً عليه أن يترجم هذه التجارب وينقلها بلغة أخرى، وهي اللغة الإنكليزية، التي أضحت لغة البحث والكتابة بالنسبة له. وفي هذه العملية من التعقيد والتغريب ما يشكل تحدياً مؤلماً على مستوى الهوية اللغوية.

ثم يزداد تشظي المكان وطأة، حين يتأمل في تاريخ أسرته وأصولها. فوالده الفلسطيني الأصل "يكره القدس لأنها تذكره بالموت"، ويهجرها باكراً في شبابه إلى الولايات المتحدة لفترة من الزمن، ليتخلى هناك عن اسمه الحقيقي (وديع) ويكني نفسه بـ"وليام"! مع بقاء سحائب من الشكوك حول الاسم الحقيقي للأسرة، وتحوله من (إبراهيم/ الخليفاوية) إلى (سعيد) دون مبررات صلبة أو مقنعة. أما أمه ففلسطينية من الناصرة، ولكن أمها لبنانية الأصل. ويزداد هذا الارتباك كلما تأمل في نسيج حياتهم الأسرية التي جمعت بين زوجين مختلفين في سماتهما الشخصية، وبمزاجين متغايرين، وأبناء عمومة ليسوا على وفاق دائم، وأبناء خؤولة لا يجدون حظوة عند نسيبهم. وقد أدى اضطرار الأسرة إلى التنقل من القدس إلى القاهرة إلى لبنان إلى الولايات المتحدة في رحلات مكوكية عبر السنوات إلى مزيد من التشرذم العائلي والتشتت النفسي. وتأتي معيشتهم في القاهرة كأقلية مسيحية  ضمن مجموعة من الأقليات المنبتة، التي ليس لأي منها سند غير الآخر، تنويعاً آخر على هلامية المكان وقلقه، ومن ثم لفظه لهم من جديد حين لم تعد ظروف المكان والزمان مناسبة للاستمرار في السكنى، خاصة بعد قدوم عهد الناصرية ودعاوى التأمين، وتعرض تجارة والده للخسائر. وهنا يتساءل الكاتب: "هل يمكن ل (إدوارد) والحال هذه أن يكون إلا في غير مكانه؟".

وحين التأمل في دور "اللامكان" في حياة إدوارد سعيد في مستواه الثالث، وهو مستوى المدينة/ الوطن، نرى أن عامل عدم الانتماء الفعلي للأرض والمدينة، طوال مراحل حياته، ساهم في شعوره الدائم بعدم الأمان، وبالترقب الدائم لما تأتي به الأيام والظروف من مفاجآت، مع توقع الانتقال والهجر في أية لحظة، وقلة الثقة بما يرفده المكان (المؤقت) من صداقات أو حب أو علاقات إنسانية. ومن هنا جاءت علاقته بالمكان متوترة، ومبتورة، وغير مشبعة، وطالما وَشَتْ بمشاعر الغربة والعزلة والانكفاء على الذات. وكان من ثمار هذا الوضع المربك، ارتباكٌ أشدّ في حياته المدرسية، التي عبرت عن نفسها بالتمرد و"الشيطنة" الصبيانية، والتأخر الدراسي، رغم ذكائه وقدراته الذهنية المتميزة. وعبرت عن نفسها كذلك في النظرة السلبية للمجايلين من زملاء الدراسة، وفي افتقاده القدرة على التلاؤم مع أجواء المدرسة، ونُظمها الصارمة. وأخيراً تحسسه المفرط لما يؤذي مشاعره من أقوال أو أفعال، واحتسابها – غالباً - في خانة العنصرية اللونية أو العرقية.

 

back to top