تونس ومصر... الإسلاميون بين نارين

نشر في 14-10-2012 | 00:01
آخر تحديث 14-10-2012 | 00:01
يبدو أن «الإخوان» في مصر وتونس يتبنون خطاباً مزدوجاً في ما يتعلق بموضوع «تطبيق الشريعة»، حيث يخبرون المجال العام بأنها مسألة ليست خلافية، وليست ضرورة ملحة في الوقت الحاضر، وربما غير مطروحة في الأساس، في ما يخبرون حلفاءهم المحافظين، وربما قواعدهم أيضاً، بأن «الشريعة ضرورة» وأن «الشريعة قادمة من دون شك، لكن المسألة تحتاج صبراً وتحايلاً على تلك الدولة العلمانية حتى يتم التمكين للإسلام... ولنا».
 ياسر عبد العزيز إذا كنت من هؤلاء الذين يتابعون أداء الشيخ راشد الغنوشي وتصريحاته بانتظام، فلا شك أنك تقدر له اعتداله ووسطيته ورغبته الواضحة، التي تظهر في أقواله، في توحيد الصف في تونس بعد ثورتها المجيدة، ومحاولة تفادي عوامل الشقاق والفرقة.

من بين أقوال الغنوشي الفريدة عن الأوضاع في بلاده ومستقبلها أن الثورة "لم ترفع شعار الشريعة"، وأن حركة النهضة، وحزبها، "لم يتعهدا بتطبيق الشريعة"، وأن "تونس دولة مسلمة، والإسلام أوسع من الشريعة"، وأن "الإسلام واضح لدى كل الناس، لكن الشريعة ليست واضحة بالقدر الكافي".

بل إن الغنوشي ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك وأكثر عمقاً وتأثيراً؛ إذ يبدو أن الرجل يرى أن استفتاء التونسيين على "تطبيق الشريعة" قد يضعهم في موقف صعب، وربما يجعل تصورهم عن إسلامهم على المحك، في وقت يعرف الجميع فيه أن التونسيين مسلمون، وأن تصويتهم لتطبيق الشريعة من عدمه يجب ألا يكون عاكساً لإيمانهم وتقديرهم لدينهم.

يلعب بعض المتطرفين هذه اللعبة السخيفة الآن؛ فتراهم يقررون أن "من يرفض تطبيق الشريعة الإسلامية يعادي الإسلام"، ويؤكدون أنه "لا يوجد مسلم لا يوافق على تطبيق الشريعة"، وأن "من يقفون ضد الشريعة كفار وملاحدة"... يحدث هذا بالطبع في وقت لا يقدمون فيه أي تصور متفق عليه للشريعة نفسها فضلاً عن سبل تطبيقها.

تلك الاتهامات تملأ الفضاء الآن في بلدان ما عُرف بـ"الربيع العربي"، بعد اللعبة الخطيرة التي لعبها الإسلاميون ونجحوا فيها نجاحاً منقطع النظير، حين بدلوا الأولويات الثورية لتلك البلدان، وجعلوا على رأسها "تطبيق الشريعة"، على عكس ما فهمناه جميعاً عن مطالب تلك الثورات المتجسدة في التخلص من الدكتاتورية، وإقامة الحياة الديمقراطية، والقضاء على الفساد، وتحقيق العدالة الاجتماعية.

يبدو أن الأجنحة الأكثر محافظة في التيارات الإسلامية بدول "الربيع العربي" تضغط ضغطاً شديداً على الأجنحة الأكثر اعتدالاً، أي على "الإخوان المسلمين" تحديداً، خصوصاً بعدما وصلوا إلى السلطة في تونس ومصر.

لذلك، فقد فوجئ الكثيرون بتسريب مقاطع "فيديو" للشيخ راشد الغنوشي، في الأسبوع الماضي، يتحدث فيها إلى عدد من الشباب السلفي، داعياً إياهم إلى "الصبر على تطبيق الشريعة، التي يجب أن تُطبق، لكن العلمانيين ما زالوا يسيطرون على مؤسسات الدولة، والجيش لا يزال غير مضمون".

يدعو الغنوشي سلفيي تونس، كما ظهر من "الفيديو" الذي لم ينكر صحته، إلى "الصبر"، وإلى "العمل التدريجي على أسلمة المجتمع بعدما بات المجال مفتوحاً، للوصول إلى تطبيق الشريعة".

إنه خطاب مزدوج إذن... فثمة ما يقال في المجال العام، ويبدو منفتحاً وحداثياً ومنطقياً إلى حد كبير، وثمة ما يقال للحلفاء في التيارات المحافظة، وربما في الجماعات المعتدلة أيضاً، عن الصبر حتى يتم التمكين للإسلاميين ويتم "تطبيق الشريعة".

ليست تلك قصة تونسية فقط، لكنها تحدث أيضاً في مصر.

كان المرشح الرئاسي الخاسر في الانتخابات الرئاسية المصرية الأخيرة عبدالمنعم أبو الفتوح قد أقنع بعض الثوريين بأنه المرشح الأنسب للفوز بمنصب الرئيس، وقد تبنى خطاباً بدا للكثيرين من هؤلاء "ليبرالياً منفتحاً"، وبدا للبعض منهم أنه محاولة للتأسيس لما يمكن اعتباره "ليبرالية ذات مرجعية إسلامية".

وعلى هذا الأساس، تم النظر إلى أبوالفتوح باعتباره مرشحاً قادراً على تحقيق أحلام "الإسلاميين" و"الثوريين" في آن، عبر تبني مطالب الثورة الحقيقية، من دون أن ينزع إلى محاولة تديين المجتمع تديينا شكلياً، بالإلحاح على مظاهر الأسلمة، التي لا تنفذ إلى الجوهر ولا تخدم مشروع الثورة أو قيم الإسلام الجوهرية.

وفي الوقت الذي كان أبوالفتوح يكسب أرضاً جديدة يوماً بعد يوم، وتشير استطلاعات الرأي إلى تقدمه السباق أو منافسته على المركز الأول في أقل تقدير، فوجئ الكثيرون من أنصاره الليبراليين بتبنيه خطاباً واضحاً يصر على "تطبيق الشريعة"، في محاولة منه للحصول على دعم الجماعات السلفية، ذات التمركز الواسع والجيد في أعماق البلاد المهمشة والفقيرة والمحرومة من الخدمات والتعليم.

يسود انطباع كبير الآن لدى الكثير من المحللين أن تبدد فرصة أبو الفتوح في الفوز بمنصب الرئيس تعود إلى محاولته إرضاء الليبراليين والسلفيين والإسلاميين واليساريين والعلمانيين في آن، وهي محاولة تبدو كتلك التي يحاول فيها المرء الظهور في مكانين متباعدين في وقت واحد.

وعلى ذات المنوال، تصرف الرئيس مرسي، الذي كان مرشحاً رئاسياً احتياطياً لجماعة "الإخوان المسلمين"، حيث ظل يتبنى خطاباً يركز على "مشروع النهضة"، ويصر على أنه سيكون "رئيساً لكل المصريين"، حتى احتدم التنافس بينه وبين أحمد شفيق، فما كان منه إلا أن خرق "الصمت الدعائي"، وتحدث إلى الصحافيين أمام أحد المقار الانتخابية، قائلاً من دون مناسبة: "سنطبق الشريعة الإسلامية".

تلك إذن رسالة ضرورية، رأى "الإخوان" ومرشحهم ضرورة إرسالها أثناء احتدام معركة التصويت، ليطمئن الإسلاميون المحافظون أياً كانت الجماعات التي ينضوون تحت لوائها إلى أن "الشريعة ستطبق"، ومن ثم يزيد عدد الأصوات، ويصل مرسي إلى الحكم.

لقد تحقق هذا بالفعل، ووصل مرسي إلى الحكم، وهو ملزم الآن بوعوده للإسلاميين الذين تعهد أمامهم بـ"تطبيق الشريعة"، كما أنه ملزم أيضاً بوعوده للمصريين والعالم بأن يقود بلاده إلى تحقيق مطالب الثورة التي لم يكن من بينها أي شيء يشير إلى "الشريعة" من قريب أو بعيد.

لذلك، فإن انقساماً سياسياً طرأ على الفور على خلفية تصريحات الغنوشي التي تم تسريبها، إذ استنفرت تلك التصريحات دعاوى قضائية ومطالبات من أعضاء في المجلس التأسيسي بحل "حركة النهضة الإسلامية"، كما فجرت جدلاً كبيراً ستكون له تداعياته الخطيرة.

الأمر ذاته يحدث في مصر، ولكنه ينعكس في الأساس في عملية إعداد الدستور؛ إذ تشهد تلك العملية صراعاً بين مكونات الجمعية التأسيسية المنوط بها وضع الدستور من جانب، وبين الأطراف السياسية الفاعلة في المجال العام عموماً من جانب آخر على تحديد هوية الدولة، وشكل النظام، ومساحة التصور الديني في الحكم. يبدو أن "الإخوان" في مصر وتونس يتبنون خطاباً مزدوجاً في ما يتعلق بموضوع "تطبيق الشريعة"، حيث يخبرون المجال العام بأنها مسألة ليست خلافية، وليست ضرورة ملحة في الوقت الحاضر، وربما غير مطروحة في الأساس، في ما يخبرون حلفاءهم المحافظين، وربما قواعدهم أيضاً، بأن "الشريعة ضرورة" وأن "الشريعة قادمة من دون شك، لكن المسألة تحتاج صبراً وتحايلاً على تلك الدولة العلمانية الجاحدة حتى يتم التمكين للإسلام... ولنا". لدى "الإخوان" كسلطة حاكمة في مصر وتونس اليوم استحقاق إزاء الثورة، ولديهم استحقاق آخر إزاء الحلفاء الإسلاميين المحافظين، ويبدو أن الاستحقاقين متعارضان، وهو أمر ستكون له تداعيات خطيرة على مستقبلهم السياسي. ولديهم أيضاً خطابان متعلقان بالشريعة، ويبدو أنهما متناقضان، وهو أمر ستكون له تداعيات سيئة على "القيم والأخلاق الإيمانية"، التي يؤكدون أنهم يتحلون بها، والتي انتخبهم كثيرون من بسطاء الشعبين على أساس أنهم خير من يمثلها.

* كاتب مصري

 

back to top