ما قل ودل: مصر المدينة الفاضلة وساعة Big Pen (2)

نشر في 18-12-2012
آخر تحديث 18-12-2012 | 00:01
 المستشار شفيق إمام تناولت في مقال أمس الأول تحت العنوان ذاته إصرار التيار الإسلامي على أن يجري الاستفتاء على دستور مصر الجديد الذي وضعته الجمعية التأسيسية المطعون على شرعيتها، في الموعد الذي حدده الإعلان الدستوري الصادر في 30/3/2011، وهو خمسة عشر يوميا، بالرغم من عدم التوافق على هذا الدستور في الجمعية التأسيسية، وانسحاب كافة القوى السياسية من غير التيار الإسلامي وانسحاب الكنيسة، وقلت إن هذا الميعاد لم يرد في نص قرآني ليستعصي على رئيس الجمهورية تعديله، وإن مسؤولياته الدستورية كانت تفرض عليه هذا التعديل حقناً لدماء شعبه، وأستكمل في هذا المقال بقية حديثي حول هذا الاستفتاء.

تصويت يخالف الأعراف الدستورية

وكيف يصوت المواطنون على دستور وضعته جمعية تأسيسية مطعون على شرعيتها أمام القضاء، حتى لو كان بإعلانه الدستوري قد حصنها؟ وكيف يصوت المواطنون على دستور، كان التصويت على نصوصه مخالفاً لكل المبادئ والأعراف الدستورية؟

وقبل أن يجف مداد إعلان رئيس الجمهورية الدستوري بمد مهلة الجمعية التأسيسية لشهرين، بل قبل أن تنتهي المدة القديمة، قامت الجمعية التأسيسية بسلق الدستور في ليلة 30 نوفمبر 2012، في سباق ماراثوني على التصويت، لم يشهده في ما أعلم وضع أي دستور لأي بلد في العالم، فالتصويت الذي جرى يخالف كل المبادئ والأعراف الدستورية في التصويت على المسائل الهامة، التي تحرص الدساتير والأعراف على أن يكون التصويت عليها بالاسم، وفي دونها من المسائل برفع الأيدي بالموافقة، والدستور بطبيعة الحال من المسائل الأكثر أهمية من المسائل الهامة، فهو القانون الأساسي الأعلى الذي يرسي القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم ويحدد السلطات العامة، ويرسم لها وظائفها، ويضع الحدود والقيود الضابطة لنشاطها، ويقرر الحريات والحقوق العامة، ويرتب الضمانات الأساسية لحمايتها، ومن ثم فقد تميز الدستور بطبيعة خاصة تضفي عليه صفة السيادة والسمو بحسبانه كفيل الحريات وموئلها وعماد الحياة الدستورية وأساس نظامها.

ولكن المستشار الفاضل رئيس الجمعية استخدم أسلوبا مبتكرا في التصويت على الدستور، هو أن يرفع المعترض على النص بيده، ولا يرفع الموافقون أيديهم لتكون الأغلبية الصامتة هي الموافقة على النص بالإجماع إذا لم يعترض أحد، فإذا كان المعترض (1) أو (4) فإن الموافقين هم حاصل طرح المعترضين من الإجماع الصامت.

استفتاء فقد مضمونه

فلا يبقى إلا أن يكون المقصود من الإصرار على هذا الميعاد هو التدليس على هذه الأمة، وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام "من غش فليس مني"، بأن يذهب أبناؤها وبناتها إلى صناديق الاستفتاء على غير بصر وبصيرة، ليقولوا بنعم لدستور لم تزد نسبة من أحاطوا بأحكامه على أقل من واحد صحيح في المئة، وهم المتخصصون الذين لم يستطيعوا أن ينقلوا إلى المواطنين من خلال حوار مجتمعي ما في هذا الدستور من إيجابيات أو سلبيات.

وأن القصد كذلك هو أن تجري الانتخابات لمجلس الشعب القادم بسرعة، قبل أن يفقد التيار الإسلامي باقي شعبيته لدى الجماهير التي خيب ظنها وآمالها فيه، خلال الفترة المنصرمة، الحافلة بالسلبيات الكثيرة التي أفرزها هذا التيار وحكومته الضعيفة التي شكلها رئيس الجمهورية.

مبادرة نائب رئيس الجمهورية

وقد طالعتنا الصحف بمبادرة الأخ العزيز السيد نائب رئيس الجمهورية، وهو بقاء موعد الاستفتاء على ما هو عليه، وبعد إقرار الدستور، توضع وثيقة مكتوبة، بكل التعديلات الدستورية التي تراها القوى السياسية، تطرح على مجلس النواب الذي سوف يتم الدعوة إلى انتخابه خلال ستين يوما من تاريخ إقرار الدستور، لتعديل الدستور.

وهي مبادرة تبدو شديدة الغرابة من قامة كان لها سجلها المشرف في القضاء، فهو يعلم قبل غيره أن الدساتير تنص عادة على عدم جواز تعديلها إلا بعد فترة زمنية، تكون قد اختبرت في التطبيق، وسعياً إلى الاستقرار الذي هو ذريعة التمسك بهذا الميعاد، وبعضها ينص على عدم تعديل بعض موادها إطلاقاً، لأن هذه الدساتير لا توضع لعام أو عدة أعوام بل لعقود طويلة من الزمن، ومن الطبيعي أن يحرص واضعو كل دستور على أن يكفلوا له الثبات والاستقرار، الأمر الذي يحملهم على النص على إجراءات كثيرة ومعقدة وأغلبيات خاصة في المجالس النيابية لتعديله فضلاً عن الاستفتاء عليه، وهو استفتاء يتحمل المواطن تكلفته المالية فضلاً عن أعبائه الإدارية وتعطيل المرافق العامة، فضلاً عن الأعباء التي يتحملها القضاء وتتحملها هذه المرافق، وهو ما يكبد الدولة المليارات من الجنيهات في الوقت الذي تمر فيه مصر بأزمة اقتصادية خانقة. ولئن كان رئيس الجمهورية قد ألغى هذا الإعلان في أغسطس 2012 إلا أن من حقه دستوريا، ودون حاجة إلى نص في إعلان دستوري أن يعيد إلى الجمعية التأسيسية مسودة الدستور، لإعادة النظر فيه، استجابة لهذه الجموع الحاشدة التي خرجت في كل مدن مصر تندد بمسودة الدستور التي لم تتوافق عليها كل أطياف المجتمع. أسئلة كثيرة حائرة لم أجد إجابة لها، ولا أجد ما أختم به هذا المقال سوى أن أبتهل إلى المولى عز وجل أن يحمي بلدي الحبيب مصر من أن يخرج من رحم هذا الدستور فرعون آخر، لكِ الله يا مصر.

back to top