كان حصار بيروت في عام 1982 أخطر كثيراً من حصار غزة، وكان هدف الغزو الإسرائيلي في يونيو (حزيران) من هذا العام المشار إليه اقتلاع المقاومة الفلسطينية من جذورها، وتوجيه ضربة قاضية إلى منظمة التحرير، وأيضاً أخذ القادة الفلسطينيين، وفي مقدمتهم ياسر عرفات (أبو عمار)، في شباك تحملها المروحيات الإسرائيلية لتجرى محاكمتهم كمجرمي حرب وكإرهابيين بالطريقة نفسها التي جرت بها محاكمة أدولف أيخمان في إسرائيل في عام 1961، بتهمة مشاركته في جرائم "الهولوكوست" التي ارتكبها النظام النازي في ألمانيا الهتلرية.

Ad

لكن الإسرائيليين، رغم أن اختلالات المعادلة السياسية اللبنانية كانت لمصلحتهم، فشلوا في تحقيق كل ما أرادوه من ذلك الغزو الذي تجاوز العاصمة اللبنانية، ووصل إلى قصر بعبدا الرئاسي، وإلى المناطق الشرقية، فالمقاومة، التي استمرت نحو ثلاثة أشهر، كانت باسلة فعلاً، رغم صمت بعض العرب وتخاذل بعضهم، لكن بالنتيجة كان على "أبو عمار" أن يستثمر ذلك الصمود البطولي، ويوقع اتفاقية انسحاب ورحيل عن لبنان، تكون بمثابة الاعتراف بمنظمة التحرير من قبل الأميركيين والإسرائيليين، وتكون السلاح الذي يذهب به إلى قمة "فاس" العربية الثانية، وإلى وضع دولي جديد كان عنوانه مبادرة ريغان الشهيرة التي وصلت إليه، أي إلى عرفات رحمه الله، عبر أثير الإذاعات، وهو في سفينة محروسة بالطرادات الأميركية واليونانية، كانت تتجه به إلى أثينا، حيث انتقل منها إلى تونس، التي غادرها بعد إقامة ليلتين إلى هذه القمة، الآنفة الذكر، التي كان جدول أعمالها أيضاً مشروع الملك فهد، وكان يومها ولي عهد المملكة العربية السعودية، لحل القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع في الشرق الأوسط.

كان "أبو عمار"، حتى وهو يغادر بيروت ويودعها الوداع الأخير، الذي لا لقاء بعده، يشعر بأنه كان منتصراً، فهو أولاً بقي صامداً في منطقة لا تزيد مساحتها على أربعة كيلومترات مربعة صمود الأبطال، بالفعل، وقاتل بفئة قليلة ضد جيش جرار، كان يعتبر ولايزال من أقوى جيوش العالم في ظل تآمر أميركي وصمت دولي مطبق، وخاض معركة مفاوضات صعبة ومعقدة، وخرج باتفاق حوّل الهزيمة إلى انتصار، ووضع منظمة التحرير، التي خسرت قاعدتها اللبنانية الصلبة، على الخريطة العالمية كمفاوض مقبول وكممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وهذا ما تم لاحقاً سواء في مؤتمر مدريد أو في مفاوضات الـ"كاريدورات" في الخارجية الأميركية في واشنطن، أو في اتفاقات أوسلو المعروفة.

وهذا كله جعل "أبو عمار" يرد على من سأله: إلى أين هو ذاهب؟ بينما كانت السفينة التي قامت بترحيله عن بيروت لم تصل بعد إلى أثينا، بالقول: "إلى القدس... إلى القدس"، وجعل الذين رافقوه في تلك الرحلة التاريخية، وكنت أحدهم، يشعرون كم هذا الرجل، الذي عاش كل حياته من أجل قضية شعبه، والذي استشهد من أجل هذه القضية، كان يتمتع بأعصاب فولاذية، ويستعين بأفق واسع وبرؤية واضحة، ولهذا فإنه قد حوّل وبسرعة الهزيمة إلى انتصار، واستطاع أن يجعل من منظمة التحرير، التي قام الإسرائيليون بغزوهم لتدميرها والتخلص منها، رقماً رئيسياً في المعادلة الشرق أوسطية.

إن هذا هو مجرد تداعي ذكريات، وما استوجب استعادته في هذه السطور القليلة هو مشهد خالد مشعل، وإلى جانبه رفيقه في "الجهاد" رمضان شلَّح، خلال مؤتمر القاهرة، الذي أعلن فيه اتفاق الإسرائيليين مع المصريين والأميركيين على وقف إطلاق النار، بعد حرب الأيام الثمانية الإسرائيلية على غزة، حيث لم يأت على ذكر المعركة السياسية المفصلية التي ستجرى في التاسع والعشرين من هذا الشهر في الأمم المتحدة في نيويورك بناء على طلب الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) من الجمعية العمومية الاعتراف للشعب الفلسطيني بدولة بحدود الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967، ومن ضمنها القدس الشرقية، وإن غير مكتملة العضوية، تكون مرجعية لأي مفاوضات مقبلة مع الإسرائيليين.