العرب: من الاتّباع إلى الاقتراع
-1-قلنا في مقال سابق، إن مصر انشغلت بمواد الدستور الجديد، الذي دار حولها خلاف كبير خاصة من الليبراليين المصريين بكل أشكالهم وفئاتهم المختلفة وهذا أمر متوقع، ودليل صحة سياسية، وحراك سياسي ديمقراطي سليم. فلو حكم الليبراليون مصر الآن، وأرادوا وضع دستور ليبرالي جديد، لاحتج عليه الأصوليون والسلفيون، وهو ما يجري الآن من احتجاج الليبراليين على دستور، تصر النخب المصرية الحاكمة، على ألا تخرج المسموحات والمحرمات عن نصوص الشريعة الإسلامية التي يخشاها الليبراليون خشية الأطفال من بعض ألعابهم.
والخلاف بين الليبراليين والأصوليين ليس خلافاً دينياً ولا دستورياً، بقدر ما هو خلاف سياسي، فالليبراليون لا يفقهون الإسلام جيداً. ومنهم من لا يحفظ آية قرآنية كريمة واحدة، وهم يجادلون الأصوليين من خارج الإسلام ومن داخل الفكر الاشتراكي الألماني، وليس من داخل الإسلام، وهذا مكمن خطئهم الكبير والعظيم.-2-ظل خطاب الديمقراطية في هذا العصر، خطاباً قلقاً مقصوراً على النقد السياسي الفردي الهامشي، لأشكال باهتة ومختلفة من الديمقراطيات المنقوصة والمجزوءة هنا وهناك، والتي جاءت بها بعض الأنظمة، في فترات معينة من حكمها لأغراضٍ تعني وتخدم نظام الحكم نفسه، أكثر مما تعني وتُلبّي مطالب تيار الديمقراطية نفسه الذي لم يكن من القوة والرقي الحضاري بحيث يستطيع فرض الديمقراطية كحتمية ومصير، لا المطالبة بها كمَكْرُمة حسب (التياسير)، أو استجدائها من الأبواب العالية، حيث كان للعرب قبل عام 1918 باب عالٍ واحد في الآستانة، فأصبح لهم الآن عشرون باباً عالياً.-3-في النصف الثاني من القرن العشرين، ورث العرب من الاستعمارين: البريطاني والفرنسي، مؤسسات سياسية، تُعتبر بداية للطريق الديمقراطي المتكامل، كوضع مقدمات، وبدايات، ومسودات دساتير معظم البلاد العربية، التي كانت خاضعة لهذين الاستعمارين. كما جاءت بريطانيا بفكرة الجامعة العربية 1945، ووضعت نظامها الأساسي، وشجعت على إنشائها، كما شجعت العرب الآخرين على إقامة البرلمانات- ولو كانت مزيفة- وإجراء الانتخابات النيابية، ولو كانت مزورة.ولكن الاستعمارين البريطاني والفرنسي لم يدركا أن الديمقراطية لا تأتي من فوق، إنما تأتي من تحت: من البيت، والمدرسة، والمُنشأة التجارية، والصناعية، والزراعية، قبل أن تأتي من الصالونات السياسية. وهي ما نُطلق عليه "استصلاح التربة، وتهيئتها للنبْت الديمقراطي". وهو ما يُسمّيه بعض المفكرين العرب بمشروع النهوض القومي، وهي عملية تاريخية طويلة الأجل، تتطلب جهداً كبيراً. كما غاب عن الذهن، أن الديمقراطية العربية- بعد رحيل الاستعمار- ما كان يمكن لراياتها أن ترتفع، في مجتمع جاهل، ومتخلف، وأمي، فيه الأغلبية من المحرومين من الخبز والعلم، الذين لا يحسنون الاقتراع بقدر ما يحسنون الاتّباع، وأن الديمقراطية في العالم العربي، أصبحت للمقرَّبين في الأرض فقط، وليست للمعذبين في الأرض (إشارة إلى أن نقد الحكم والحاكم في العالم العربي ظل مقبولاً، ومقصوراً على من هم من عظام الرقبة، فقط).وهذا يعني، أن كل هذه البذور التي بذرتها بريطانيا وفرنسا في العالم العربي، كانت في أرض غير صالحة للنبْت الديمقراطي، وغير مُهيأة ثقافياً، وعلمياً، وتربوياً، لمثل هذا الزرَع وهذا الطَلْع. فأصبحت الدساتير حبراً على ورق، والبرلمانات مهرجانات، لتأييد الحكام، وترشيحهم لولايات أبدية، قبل أن يفكروا هم أنفسهم بترشيح أنفسهم. وتحوّلت "مجالس الشعب" إلى منابر لقول "النَعَمَات"، وإرسال التهنئات والتبريكات للباب العالي الجديد، في المناسبات! وتحوّلت "الجامعة العربية" إلى ديوان لطحن الكلام، وكتابة المذكرات، وشرب القهوة المُرَّة، دون أن يكون في مقدورها جمع زعيمين عربيين مختلفين على فنجان قهوة، عدا عقد مؤتمر قمة ناجح، وفعّال.-4-وظلت التربة العربية حتى نهاية القرن العشرين تربة مالحة، سبخة (التربة الكثيرة المياه غير المنصرفة)، غير صالحة للإنبات الديمقراطي، أو للإنبات الوحدوي، وبحاجة شديدة وماسة إلى استصلاح قبل التفكير، أو الشروع في إنبات ديمقراطي، أو وحدوي جديد. ويتركز هذا الاستصلاح للتربة العربية، في إحداث ثورة هائلة في التعليم، وفتحٍ- دون حدود- لآفاق الثقافة، وتدفقٍ غير محدود للمعلومات، وثورة هائلة في مناهج التعليم، والتربية العصرية.وفي تربة عربية مالحة وسبخة، غير صالحة للزراعة الديمقراطية في النصف الثاني من القرن العشرين، كانت تنبت هنا وهناك أعشاب الديمقراطية البرية المتفرقة قصيرة العمر، قريبة الجذور، كعشب الصحراء، تأتي سريعاً وتذهب سريعاً في مواسم سياسية معينة، ولعل كل ذلك يعود إلى عدة أسباب كثيرة منها:1- أن نهايات القرن التاسع عشر، وطوال النصف الأول من القرن العشرين... تلك الفترة التي شهدت ما سُمّي بـ"عصر النهضة"، كانت فترة عُني فيها الفكر العربي السياسي بالاستقلال أكثر من عنايته بتحقيق الديمقراطية. وكانت معارك الاستقلال ضد الاستعمارين: العثماني والأوروبي، تُمثل جُلَّ اهتمام المثقفين والمفكرين السياسيين العرب في تلك الفترة، وكانت مسألة تحقيق الديمقراطية وتطبيقها ورقة سياسية مؤجلة الدفع. إضافة إلى ذلك، فإن القاموس السياسي العربي خلال القرن التاسع عشر كاد يخلو من كلمة "الديمقراطية"، وكانت هناك مصطلحات بديلة كـ"الشورى"، و"أهل الحل والعقد"، و"العدل والإنصاف"، وخلاف ذلك كما أشار رفاعة الطهطاوي.2- وبعد النصف الأول من القرن العشرين، وتسلُّم الفئات الوطنية زمام الحكم، أخذ الفكر العربي السياسي ينادي بالديمقراطية، ويُفرد مساحات واسعة منه لهذه الورقة السياسية، ولكن هذه الورقة السياسية، ما لبثت أن أصبحت مؤجلة الدفع، إلى وقت غير مُسمّى، بفضل الثورة العسكرية المصرية 1952، وبفضل نشوء الناصرية بعد عام 1954، التي نادت، وحرصت، وأكدت، على تأجيل دفع الورقة الديمقراطية إلى أجل غير معلوم، وتقديم أوراق سياسية أخرى مستحقة الدفع فوراً كالاشتراكية، والوحدة، والتحرر الوطني. وأصبح من يطالب بتحقيق الديمقراطية في هذه الفترة التي امتدت من عام 1954 حتى 1970 كأنه يطعن في شرعية النظام السياسي، وينادي بعودة الاستعمار الذي نشأت الأحزاب السياسية في ظل وجوده، ونشأت صحافة المعارضة في فترة حُكمه.3- عجز المؤسسات الديمقراطية عن تمثيل المصالح الحقيقية للشعوب وتطلعات الأجيال المثقفة، وهيمنة السلطة التنفيذية على المؤسسات التشريعية، وتدخلها في الانتخابات، وممارسة القمع والاضطهاد ضد المعارضة السياسية، وضعف الوعي الشعبي بسبب انتشار الأميّة، ووجود طبقات، ومراحل اقتصادية، واجتماعية، متفاوتة، بين أقطار العالم العربي.وهناك أسباب أخرى سنتحدث عنها، في مقالنا القادم إن شاء الله.* كاتب أردني