يشكل كتاب «فوكو صحافياً... أقوال وكتابات» عرضاً لفلسفة فوكو الصحافي الذي يتحدَّث بمفاهيم الفلسفة، والفيلسوف الذي تستهويه السياسة فيتحدَّث لغتها محلِّلا الإسلام الإيراني، آليات السلطة، الجنسانية، الثورة الإيرانية والخمينية.

Ad

 يحضر الفيلسوف ميشيل فوكو ملخِّصاً ومستدركاً لبعض القضايا الفلسفية التي فاتته الإشارة إليها في مؤلفاته الكبرى مثل «آركيولوجيا المعرفة وتاريخ الجنسانية»، وناقدًا لبعض النظريات الفلسفيّة كالوجودية والتحليل النفسي، ومتحدِّثاَ في مواضيع أخرى كثيرة كالموت، العدالة، الهوية، والسياسة الصحية.

 يتضمن الكتاب مجموعة مقالات لفوكو حول إيران، أبرزها «الدين ضد الشاه، والزعيم الأسطوري للثورة الإيرانية، وبما يحلم الإيرانيون؟»، إلى جانب بعض الحوارات الرصينة معه. ويصبّ جوهر الكتاب في خانة العلاقة الملتبسة والمثيرة للسجال بين الفيلسوف الفرنسي والثورة الخمينية ومسارها، فقد ظل موقف فوكو من الخمينية مدار جدل لفترة طويلة، وصدرت حوله عشرات الكتب بهدف معرفة السر الذي جعل فوكو يميل إلى ثورة انتهت بسيطرة استبدادية على إيران. وقد سمحت وفاة فوكو المبكرة بالنقاش المفتوح.

الكفاح اليساري

لم يكن ميل فوكو نحو الخمينية إلا نتيجة مسار سياسي. انحسر النشاط السياسي في أواخر السبعينيات بعد خيبة الأمل تجاه الكفاح اليساري، وتخلى عدد من الشباب اليساريين عن معتقداتهم ليصبحوا ما يسمى «الفلاسفة الجدد»، وغالباً ما ذكروا بأن فوكو يمثِّل مرشداً أساسياً لهم، أمر بدا أن مشاعر فوكو كانت مختلطة تجاهه. آنذاك، أطلق فوكو مشروعاً من ستة مجلدات بعنوان «تاريخ الجنسانية» لم يتمكن من إنهائه، الأول منها بعنوان «إرادة المعرفة» فيما لم يظهر المجلد الثاني والثالث إلا بعد ثماني سنوات، وقد كانا مثار استغراب القراء نظراً إلى الأسلوب التقليدي لهما، وموضوعاتهما (نصوص إغريقية ولاتينية كلاسيكية) ومقاربتهما لمفاهيم أهملها فوكو في ما سبق.

وبينما بلغت التظاهرات ضد الشاه في إيران أوجها، عمل ميشيل فوكو مراسلاً صحافياً خاصاً لجريدتي «كورير ديلا سيرا» و{لونوفل أوبزرفاتور». فزار إيران للمرة الأولى في سبتمبر 1978، ثم قابل الخميني في منفاه في ضواحي باريس في أكتوبر من العام نفسه. سافر إلى إيران ثانية في نوفمبر، عندما بلغت الثورة الإيرانية ضد الشاه أوجها، حيث استقبله في قم في 20 سبتمبر آية الله شريعة مداري، ثاني أكبر شخصية دينية في البلد، منظر الليبراليين والمعارضين لممارسة السلطة السياسية من طرف رجال الدين.

خلال هاتين الرحلتين، كانت مقالات فوكو تتصدر الصفحة الأولى من جريدة «كورير ديلا سيرا»، وقد نشر مقالات أخرى عن إيران في صحف ومجلات فرنسية، بادرت مجموعة ناشطة من الطلاب إلى ترجمة واحدة منها على الأقل إلى الفارسية لنشرها على جدران جامعة طهران في خريف عام 1978.

أبرز فوكو سلسلة من المواقف النظرية والسياسية المميزة في الثورة الإيرانية، وكانت من جملة الأسباب التي نتج منها شح التعليقات والنقاشات باللغة الإنكليزية عن مقالات فوكو حقيقة أن ثلاثاً فقط من 15 مقالة له نقلت إلى الإنكليزية. وقد نظر باحثون كثر على أن هذه الكتابات كانت شذوذاً أو ناتجة من خطأ في التحليل السياسي أو نظرة فوكو السياسية.

حماسة متفائلة

يتضح من مقالات فوكو ولقاءاته في إيران أنه اهتم بعدد من أفكار شكلت دوراً مركزياً في تفكيره خلال منتصف السبعينيات وهي: مقاومة سلطة الدولة، دور المثقفين، والتضاد بين الشرق والغرب. ولكن وجدت أفكار جديدة عدة طريقها إلى عقله في الثمانينيات وهي: الروحانيات السياسية، النقد في اعتبار أنه مشروع أخلاقي إيجابي، وقليل من الأمل.

 كذلك يمكن أن نرى في دراسة فوكو عن إيران حماسة متفائلة وضعت أوراقه كافة في خدمة إمكانات واحتمالات جديدة هي مدعاة إلى الاشتباه والشك في ما يتعلق بالحساسية السياسية حيال الواقع. وحول ذلك قالت أتوسا هـ، قارئة من إيران، رداً على مقالة «بما يحلم الإيرانيون»: «يبدو متأثراً بالروحية الإسلامية التي ستحل بشكل مفيد محل الدكتاتورية التجارية الشرسة المترنحة في الوقت الحاضر».

اعتبر فوكو من دون شك أن الثورة الإيرانية هي نضال شعب لأجل التحرر من الاستبداد، واعتبر النظام الاشتراكي الذي عاينه في بولونيا استبداداً أجنبياً مفروضاً بواسطة الدبابات السوفياتية: «فالشيوعية لا تدوم ليومين اثنين من دون الاحتلال الروسي»، قال. لكن فوكو لم يكن يتقاسم النزعة الغربية الإرادية والإيمان الغيبي بالديمقراطية وحقوق الإنسان من دون نسيان المساواة بين الجنسين، والتي يجدها، مثل كثيرين، دوغمائيات مثل غيرها.

تحدثت المقالتان الأخيرتان بقلم فوكو عن إيران، ونشرتا بعد وصول الخميني إلى السلطة وبعد تأسيس «الحكومة الإسلامية»، وسيطرت عليهما نبرة أسف وخيبة أمل، لا سيما في ما يتعلق بإعادة تقييم فوكو للمثل التي حرضت وعبأت اهتمامه بالثورة الإيرانية. في رسالة مفتوحة إلى مهدي بازركان الذي كلف من طرف الخميني بتشكيل الحكومة، وكان الحكم الإسلامي قد أعلن، وبدأت إعدامات المعارضين على يد فرق «كوماندوز» تنسب نفسها إلى الخميني، كتب: «ليست لدي بالطبع سلطة سيدي رئيس الوزراء لأتوجه إليكم سوى بالإذن الذي منحتموني إياه عندما أفهمتموني في لقائنا الأول أن الحكم بالنسبة إليكم ليس حقاً تشتهونه بل هو واجب في غاية الصعوبة. عليكم أن تتصرفوا بحيث لا يرفض هذا الشعب أبداً القوة التي حرر بها نفسه للتو من دون تنازل».