"هارموني هاوس" واحد من المراكز التطوعية المعنية بالصحة الروحية والتنمية الذاتية، وهو واحد من فروع عدة يعمل بها متطوعون مؤمنون بضرورة نشر هذه الثقافة الروحية في عالم يضج بالصخب والصراعات والتوتر، الأمر الذي طالما أفقد الإنسان أمنه النفسي وصفاءه الروحي. ولعل أجمل ما تتبناه أمثلة هذه المراكز هو انفتاحها المطلق على الإنسان بعموم ثقافته ودينه ومعتقداته، محاولة أن توجد قواسم مشتركة ومتينة تجمع هذه الاختلافات حول جوهر إيماني واحد، طالما وعاه الإنسان بالبداهة والفطرة السليمة.

Ad

وقد سبق لي أن حضرت أكثر من جلسة للتأمل والحوار في "هارموني هاوس"، وهي مجموعة تضم شتى المشارب والجنسيات والأديان، ثم وسّع المركز صلاته بالمجموعة عن طريق موقعه الإلكتروني وحضوره على "فيس بوك" ومراسلاته عبر الإيميل. الأمر الذي يدل على إيمان العاملين به بدورهم التنويري، ورغبتهم في تكريس الوعي بأهمية الصحة الروحية والتوازن النفسي، واتخاذ شتى السبل التي تعين على ذلك.

لا يستطيع المتابع للموضوعات التي تنشر على موقع "هارموني هاوس" إلا أن يُعجب بالأسلوب الهيّن اللين في التوغل إلى منعطفات النفس الإنسانية، منطلقين من الإيمان بنقاء الجوهر الإنساني وانكفائه على طاقات غير محدودة، وتهيؤه الدائم للنمو الروحي والتطور النفسي، عبر سلسلة من الدروس والتجارب الحياتية. لذلك فالمتأمل (أي من يمارس التأمل) لا ينفك تلميذاً من تلاميذ الحياة، يجد المتعة والرضا في تذكره الدائم لطقوس هذه المدرسة.

أول هذه الدروس الالتزام (*). فكما يلتزم طلاب المدارس باليوم المدرسي وبجدول الحصص، كذلك على "المتأمل" أن يلتزم بطقوس العبادة اليومية أو الأسبوعية. فعلى غرار حاجة الجسم للغذاء تأتي حاجة الروح لغذاء آخر من الأفكار الإيجابية والأقوال المضيئة المستقاة من طقوس الصلاة أو الدعاء. وهذا الالتزام يصبح قادراً على إيجاد لون من النظام في حياة الإنسان، ويعطيه فسحة لتنقية ذهنه والركون إلى السكينة، ليعود بعدها أكثر نشاطاً وقدرة على القيام بمهام حياته.

في المدرسة قد لا تكون "الشطارة" أو التميّز صفة لكل التلاميذ. ولكن درجة النجاح قد تمنح لغير الفائقين، لأنهم حريصون على الحضور والانضباط، وهذه الصفة قد تستدرج تعاطف المعلم فيسمح بهذا النجاح ويصادق عليه. وهذا بالضبط ما تفعله المواظبة على الانضباط في رحلة الإنسان الحياتية، حين يؤدي كل شيء في وقته أو يعدّ له العدة مبكراً مستفيداً من الوقت قبل أن يفوته. وحين يفوت الوقت يبدأ الارتباك وعدم القدرة على التوافق مع الزمن العام لمسيرة الحياة.

وكما ينفرد تلميذ المدرسة بذاته من أجل أداء الواجب المنزلي والمذاكرة، كذلك يحتاج الإنسان إلى أن يختلي بنفسه يومياً إن استطاع، ليعيد مذاكرة المبادئ الإيجابية التي ترفد روحه وعقله. وذلك حتى لا ينشغل العقل بما يناقض هذه المبادئ من سفاسف، وأيضاً لتترسخ هذه المبادئ في الذهن وتكون رهن الطلب حين الحاجة إليها في أي موقف من مواقف الحياة. وكما يُكلّف التلميذ إجراء البحوث والمشاريع البحثية، على "المتأمل" أن يبحث عن الحقائق الإيمانية من مظانها ولا يكتفي بالتلقي والسماع. ثم يردف ذلك بالتجريب والمعاينة، كممارسة الصمت الإيجابي أو تقمص الشعور بالقناعة، أو تذوق الرضا أو التسليم بما لا يستطيع أن يغيره.

وكما أن الامتحانات والاختبارات تعد من أهم أعمدة التعليم المدرسي، كذلك هي في رحلة الحياة. وتقاس درجة نجاح رحلة الإنسان الحياتية بقدرته على اجتياز الاختبارات التي تواجهه في مسيرته، كما تقاس بمقدار ما يملكه من صمود، وتوازن نفسي أثناء العبور، بحيث لا يسمح لدراما الحياة ومزعجاتها أن تنغص عليه سلامه، وسكينته العميقة. وكما يجتاز التلميذ النجيب اختباراته بنجاح وتفوق، على (المتأمل) أن يحافظ على طمأنينته الروحية وسط العواصف، وأن يوكل أمره لله ويصدُق في ظنه به سبحانه.

ويبقى أن أجمل ما في مدرسة الحياة، أنها تقدم تعليماً مجانياً. ولكن على شرط أن تظل منفتح الآفاق، متقبلاً لهذا اللون من التعليم، لتنمو روحك، وتستنير بصيرتك، وتتواصل مع ذاتك الأعمق. أما إذا اخترتَ التمرد والعصيان على قوانين المدرسة، فإن الاختبارات ستكون أشد قسوة وصعوبة.

(*) الفقرات مترجمة بتصرف من موقع "هارموني هاوس" الإلكتروني.