مسألة بقاء
الملاحظ خلال السنوات القليلة الماضية أن السلطة القضائية هي الأكثر التزاماً بالدستور وإحقاقاً لحقوق الناس من بين السلطات الدستورية الثلاث، فبينما يتوسع مجلس الأمة بإصدار القوانين التي تتعارض مع الدستور، وبينما تمعن الحكومة بالتعسف والانتقائية بتطبيق القوانين وإصدار القرارات، والمتضرر منهما المواطن البسيط، جاءت معظم الأحكام الصادرة من محكمة التمييز والمحكمة الدستورية بتوجه تقدمي وانتصرت لمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان الواردة بالدستور، إلا أن ما يحوز اهتمام الرأي العام منها هي الأحكام في القضايا ذات الطابع السياسي كقانوني التجمعات والفرعيات، بينما لا تحظى الأحكام الأخرى التي تصوب القوانين التي تمس حياة المواطنين بنفس القدر من الاهتمام رغم كونها أهم وأكثر إلحاحاً، كالحكم الصادر في أكتوبر 2009 عندما أسقطت المحكمة المادة (15) من قانون جوازات السفر التي حرمت المرأة المتزوجة من استصدار جواز سفرها دون موافقة الزوج.
فضلاً عن أن قانون المحكمة الدستورية مهد للمجلس والحكومة طريق اللجوء المباشر لها، فإن القضايا ذات البعد السياسي غالباً ما ستجد الظرف والحاجة لتصل إلى المحكمة الدستورية بفعل الصراع الطبيعي بين المجلس والحكومة وحماس الجماعات والناشطين السياسيين للمبادرة، بينما غالباً ما يؤْثر المواطن عدم مواجهة الانتهاكات ضده التي ترتكب من قبل الدولة تحت غطاء قوانين غير دستورية لأن طريقه إلى المحكمة الدستورية وعر ومكلف وغير مضمون بفضل قانون إنشائها الذي وضع العراقيل أمامه، إذ تغدو المسألة بالنسبة للمواطن البسيط هي حساب الكلفة مقابل المنفعة، فعندما يتطفل الشرطي بطلب هوية مواطن ومن معه دون اشتباه مبرر، هل يستحق التمسك بحق الخصوصية تحمل عناء مواجهة الشرطي والمخفر ورفع قضية للطعن بقانونية نقاط التفتيش؟ وهل يستحق تمسك الوافد بحقوقه مواجهة احتمالية تعسف الدولة أو كفيله ضده وضياع أمانه واستقراره؟ وهل يستحق تمسك المرأة بحقها بالمساواة في التوظيف والأجر المخاطرة بتعكير العلاقة بينها وبين رب العمل؟ وهل يستحق تمسك الفنان بحريته في التعبير مواجهة وزارة الإعلام والجماعات المعادية للفن والإبداع؟ وغيرها من المواقف التي يكون فيها سلك طريق الطعن في دستورية القوانين مخاطرة غير مضمونة النتائج ومكلفاً لعدم توافر الدعم المؤسسي للمواطن من محامين وإعلام كما يتمتع به المجلس والحكومة.ومثلما لم يلتفت المجلس والحكومة لانتهاك يمارس يومياً ضد استقلالية المرأة وحرية تنقلها بحرمانها من الحصول على جواز سفر إلى أن طعنت بدستوريته إحدى المواطنات بعد 47 عاماً من وجود القانون، لن يهتمان بأي قانون آخر ما دام لن يؤدي إلى مكسب سياسي لأي منهما، بل على النقيض هما مستمران في إصدار القوانين والقرارات غير الدستورية، ما اختلف الآن هو أنه في السابق كان الزحف على خصوصيات الأفراد وحرياتهم الشخصية مجرد تضييق ممكن صده، ولكن أما وأن بلغ الأمر إعدام إنسان لقولٍ أو رأيٍ يبديه مثلاً، فإنها أصبحت مسألة بقاء، ما يجعل تعديل قانون المحكمة الدستورية للسماح للأفراد باللجوء إليها مباشرة لرد الانتهاكات التي تمارس بغطاء قانوني ضرورة قصوى. جميل التوجه لإصلاح النظام السياسي وتعزيز الحقوق العامة، ولكن لا فائدة من ذلك إذا كانت حرية ممارسة تلك الحقوق على المستوى الفردي بالأساس مقيدة، بل قد تعرض ممارسها للقتل.