أجمل ما في أي رحلة، تعلم الجديد، وهذا ما أحاول أن ألتقطه هنا في عوالم أميركا بولاياتها المختلفة، وتحديداً في جامعة "أيوا". الدكتورة (نتاشا دروفيكوفا-Natasa Durovicova) عنصر فاعل وموثر في برنامج (الكتابة الإبداعية العالمي- International Writing Program)، وهي امرأة خمسينية لا تعرف الكلل ولا الملل، تبدو، بقصة شعرها القصير وابتسامتها الدائمة، مشحونة بطاقة متجددة. وهي أحد أهم الجسور بين الكتّاب المشاركين في البرنامج بأعمالهم ومحاضراتهم وندواتهم، وبين دكاترة وطلبة الجامعة. ومن ضمن الفعاليات التي تشرف عليها بشكل مباشر (ورشة الترجمة العالمية-International Writers Workshop)، بعقد اتفاقٍ بين كاتب مشارك وبين أحد طلبتها لخوص تجربة الترجمة، وهذا ما حدث معي، حين تولت (ناكوا موبو نانا_Ngwah Mbo Nana) مهمة ترجمة إحدى قصصي القصيرة (سرقات صغيرة)، وكنتُ حريصاً على العمل مع طالب دراسات عليا، لا يعرف العربية، وذلك كي امتحن نفسي في قدرتي على توصيل المعاني والمستويات المختلفة للعمل الإبداعي، خصوصاً أن هناك مترجماً متخصصاً، و(محرراً-Editor) سيتوليان مراجعة النص بشكله النهائي.

Ad

"نانا" شابة مولودة في أميركا لأب وأم جاءا من "كينيا". قبل جلستنا الأولى طلبت مني إرسال النص إليها عن طريق الإيميل بصياغته بلغته العربية. وحين حضرت للجلسة، أخبرتني أنها جمعت الكثير عن سيرتي الذاتية كإنسان وكاتب من مواقع الإنترنت، وفاجأني أنها جمعت مادة لم أكن أنا نفسي أتصور أنها منشورة عني باللغة الإنكليزية، لكن ما فاجأني أكثر أنها جمعت مواد كثيرة جداً عن الكويت، تاريخياً وجغرافياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وفنياً، وقالت لي بلكنة أميركية لافتة: "أحببت الموسيقى الكويتية، وموسيقى البحر تحديداً".

بقيت ساكتاً مصدوماً بجدية هذه الفتاة السمراء، ولأنها أدركت ما ألجمني، قالت موضحة: "لكي تترجم قصة لكاتب يجب أن تعرف الكثير عنه وعن عالمه، وإلا ظلت ترجمتك تنتقص للروح". أومأت لها برأسي موافقاً، وتستخلصني من أفكاري قالت: "لنبدأ".

اتفقنا على أن أقرأ كل جملة باللغة العربية، كي تسمع هي لحن الجملة وموسيقاها بلغتها الأم، بعدها أقوم بترجمة معنى الجملة، لتتولى هي تحريرها باللغة الإنكليزية.   

بدت الفكرة عملية ومقبولة، لكن مع الجملة الأولى، وكلمة "أخاتل" بدأ عالم آخر يتكشف لي، فلقد سألت "نانا" عن المعنى الكامن خلف المخاتلة، وهل هي مخاتلة ماكرة أم مخاتلة لعب؟ وهل هي مخاتلة الصياد المتربص بفريسته، أم مخاتلة المحبوب لمفاجأة محبوبته؟ وهل يداخلها المكر أو الدهاء أو الخبث؟ وحين جاءت جملة: (جلسنا معاً على الأرض حول سفرة العشاء، امتدت أيادينا جميعاً إلى صحن الباقلاء والخبز) كان عليَّ أن أجلس متربعاً على الأرض كيف تستوعب هي كيفية الجلسة، وأن أشرح لها كيف كانت "سفرة الأكل" تُصنع من خوص النخيل، وتحديد نوع الباقلاء، وتقطيع الخبز وتشربه بمائها.

أربع جلسات استغرقتنا الترجمة الأولية لقصة قصيرة من (1200) كلمة، وكل جلسة امتدت أربع ساعات، بعدها انعقدت حصة "ورشة الترجمة" بوجود الدكتورة "نتاشا"، ورئيس البرنامج الدكتور (كريستوفر ميريل-Christopher Merrill)، والكاتب العربي الليبي الزائر وقتها "هشام مطر"، وإذ بي أتفاجأ مجدداً، أن "نانا" قامت بتوصيل نسخة إلكترونية من ترجمة القصة للمدرسين وزملائها في الفصل، حيث انفتح نقاش معي ومعها عن عوالم القصة، وشارك كل زميل وزميلة برأيه في ترجمة كل عبارة، واستمر النقاش لمدة ساعة، بعدها قامت "نانا" بجمع نسخ القصة من كل زميل بملاحظاته، لتقوم هي بالنظر في هذه الملاحظات والعمل بالجيد منها، وهذا كله تمهيداً للترجمة النهائية.

العمل حياة، وللعمل الإبداعي حياة أطول حتى من عمر صاحبه، وهنا تكمن عظمته!