مرت سحابة من البؤس والكآبة في سماء الأندلس، تزامنا مع الأيام الأخيرة لدولة "الحكم المرتضى" بعد ما جرى من قمع وحشي لثورة الربض، جعلت قرى الأندلس ومدنها تعرف شيئاً من الخوف، وانتظر الجميع من الحاكم الجديد عبدالرحمن بن الحكم، أن يطوي صفحة أبيه بإجراء مصالحة الشعب الأندلسي، وكان أمل الأندلسيين ورجاؤهم في محله، فقد استطاع عبدالرحمن المعروف بـ"الثاني" و"الأوسط" بما تميز به من حسن سياسة ولين جانب في أن يعيد للأندلس نضارتها ويفرد على رعاياه بساط أمنه، فجدد بشبابه شباب الأندلس، فأحبه الأهالي وأطلقوا على سنوات حكمه الطويلة التي امتدت ثلاثين عاما (206- 238هـ/822-852م) "أيام العروس"، رغم أن عبدالرحمن الأوسط واجه الكثير من الثورات والأخطار الخارجية، لكنه نجح في التغلب على تلك المشاكل والأزمات الواحدة تلو الأخرى، لتعيش الأندلس في ظله أحد أزهى عصورها، وتتحول قرطبة إلى منارة حضارية تضارع بغداد في الشرق، وظهر في عصره عدد من أبرز علماء العصر وأشهرهم على مر التاريخ.

Ad

كان عبدالرحمن أنبغ أبناء الحكم، الذي لمح في ولده الأكبر ذكاء وقدرة على تحمل أعباء الحكم، فأعلنه وليا للعهد وشريكا له في الحكم، لذلك عندما تُُوفي "الحكم" انتقلت السلطة بكل سلاسة في يوم 27 من ذي الحجة 206هـ/ 14 مايو 822م، للأمير الشاب "عبدالرحمن الثاني".

وعلى الفور وضع الأمير عبدالرحمن خطة محكمة لمد جسور الثقة بينه وبين الرعية للعمل على إزالة الآثار المدمرة لأعمال والده القمعية، ساعده على ذلك حسن عشرته للناس، الذين وجدوا متعة في الجلوس إليه والحديث والتبسط معه، فزاد ذلك في محبة الشعب له فالتفوا حوله وكانوا عونه الأول في كل المصاعب التي واجهته، ساعده في ذلك ظهور عدد من الشخصيات النابغة في عصره أحسن هو اختيارهم ووجههم لإدارة مرافق الحكم، وفي ذلك يقول المؤرخ الأندلسي الرازي: "وانتقى الرجال للأعمال، واستوزر الأكفاء، من أهل الاكتفاء، وقدوة الأبطال ذوي الغناء، فظهر في أيامه جلة الوزراء وكبار الفقهاء".

عودة الفقهاء

أضف إلى ذلك أنه قام بإعادة الفقهاء إلى مكانتهم القديمة، بعد أن قام والده بإقصائهم، فقرب الفقيه الشهير يحيى بن يحيى الليثي (المتُوفى سنة 234هـ) وجعله مستشاره الأول وألقى بشؤون القضاء بين يديه يعزل ويولي، على الرغم من زهده في منصب القضاء، وكان الأمير لا يقر شيئا في شؤون القضاة إلا برأيه، بل كان يستفتيه في أمور بيته كذلك، فعندما نظر الأمير إلى جارية له في رمضان فلم يملك نفسه أن واقعها، ثم ندم وطلب الفقهاء، وسألهم عن توبته، فقال له يحيى بن يحيى: "صم شهرين متتابعين"، فسكت العلماء، فلما خرجوا قالوا ليحيى: مالك لم تفته بمذهبنا عن مالك أنه يخير بين العتق والصوم والإطعام؟! قال: "لو فتحنا له هذا الباب لسهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة، فحملته على أصعب الأمور لئلا يعود"، وبالفعل صدع الأمير بالأمر وصام الشهرين.

وعندما تُوفي يحيى بن يحيى تولى مكانه وحل محله الفقيه عبدالملك بن حبيب، الذي لم يقل في علمه عن الراحل، كما أنه تفوق في علوم اللغة وآدابها.

كان أول خطر واجه سلطة عبدالرحمن الثاني، تلك الثورة التي قادها عم أبيه "عبدالله البلنسي" ذلك الداهية العجوز الذي ثار من قبل في وجه كل من أخيه هشام، ثم ولده الحكم، والآن يثور للمرة الثالثة في وجه عبدالرحمن الثاني، ورغم سيطرته على ولاية "تدمر" جنوب غربي الأندلس فإن المنية أدركته فمات، لكن الثورة لم تنته بموته فقد واصل أهالي الولاية ثورتهم، ولم تخمد الثورة إلا بعد أن أرسل الأمير عبدالرحمن واليا جديدا استطاع إخماد الثورة واتخذ إجراءات عقابية كان منها نقل عاصمة الإقليم من مدينة "تدمر" إلى مدينة "مرسية".

الفايكنغ

استطاعت قوات قرطبة إخماد ثورات البربر ومحاولات الإسبان مهاجمة الأراضي الإسلامية، إلا أن أكبر خطر هدد دولة الإسلام في الأندلس أيام عبدالرحمن الثاني كان بلا شك خطر محاربي الفايكنغ أو النورمان المعروفين عند مؤرخي الأندلس بـ"المجوس"، فقد تحركت جموع قبائلهم، ذات الأصول الجرمانية من قواعدها في شبه الجزيرة الإسكندفانية بشمال أوروبا، ليقوموا بعمليات تخريب واسعة في غرب أوروبا، مستغلين مهارتهم الحربية وتفوقهم البحري، في عمليات نهب وسلب واسعة، لذلك هاجموا سواحل غرب أوروبا ناشرين الرعب والخوف في بلدان أوروبا.

هاجم الفايكنغ أشبونة (لشبونة) وقابس وشذونة إلا أن ولاة هذه المدن استطاعوا صد الهجوم الأول للفايكنغ، الذين حولوا نشاطهم إلى أكبر مدن غرب الأندلس إشبيلية، ونجحوا في أن يدخلوها مرتكبين مذبحة بشعة في 14 من المحرم سنة 230هـ/844م.

وضع الأمير عبدالرحمن خطة عمل للتعامل مع هجوم الفايكنغ كان أولها أن أرسل قواته البرية لمهاجمة الفايكنغ بالقرب من إشبيلية والاشتباك معها، وهو ما تم بالفعل فقد أنزل الجيش الإسلامي بالفايكنغ الهزيمة بقرية "طلياطة" وقتلوا 500 من أشهر فرسانهم، ما أجبر الفايكنغ على الرجوع إلى سفنهم والإقلاع بها صوب قواعدهم بشمال أوروبا، بعد أن بثوا الرعب في أهالي الأندلس لمدة مئة يوم، ويقول ابن عذاري عن هذا النصر وانتهاء فتنة الفايكنغ: "فقتلهم الله وأبادهم، وبدد عُددهم وأعدادهم، وقُتل أميرهم نقمة من الله وعذابا، وجزاء بما كسبوا وعقابا".

وقام الأمير عبدالرحمن الثاني باتخاذ عدة إجراءات احترازية كان على رأسها بناء سور ضخم حول مدينة إشبيلية وتحصينها، وأنشأ بها دارا عظيمة للصناعة (ترسانة)، لتكون مقرا للأسطول الأندلسي الغربي.

النهضة

انتعشت الأندلس في ظل مهارة عبدالرحمن الحربية وحنكته السياسية، وتوفر لأهلها الوقت لبناء حضارة زاهرة فقد كانت العوامل الحضارية فعلت فعلها في مزج عناصر المجتمع الأندلسي، وبدأت معالم نهضة علمية وفكرية وأدبية تظهر واضحة للعيان، وانتشرت اللغة العربية وآدابها بين الإسبان أنفسهم، وظهرت الفنون والآداب الأندلسية المميزة وأخذ فنا الزجل والموشح الأندلسيان في الظهور في هذا العصر.

واكتسب جامع قرطبة الكبير طابعه المعماري الفريد في عصره، وقام عبدالرحمن الثاني بإصلاحات وتوسيعات في جامع قرطبة، وعندما رأى المشرفون على عمليات التوسعة والإصلاح أن ارتفاع سقف الجامع لم يعد يتناسب مع اتساع الجامع، تقرر رفع السقف من خلال وضع أعمدة وأقواس فوق الأعمدة فكان من نتيجة ذلك تلك الأقواس المزدوجة التي تعد من بدائع العمارة الإسلامية، وقد ازدادت تلك الأقواس جمالا عندما اختار الفنان الأندلسي المزاوجة بين الآجر (الطوب الأحمر) والحجارة البيضاء، فأصبح ازدواج ألوان العقود طابعا يميز عمارة مسجد قرطبة، وارتفع السقف إلى مسافة 18 مترا ما زاد من بهاء الجامع ورحابته.

وقاد النهضة في عصر "الأوسط" عدد من الشخصيات البارزة كان على رأسها الموسيقار زرياب (واسمه علي بن نافع) الذي كان ظهوره حدثا فارقا في تاريخ الأندلس الحضاري، فقد قاد ثورة شاملة في مجالي الفن والسلوك الاجتماعي، ويعد زرياب أحد الشخصيات التي مارست نفوذا هائلا في رسم معالم الشخصية الأندلسية، ويعد عباس بن فرناس أحد أبرز ممثلي النهضة الفكرية في عصر "الأوسط" ففضلا عن كونه فيلسوفا كان رياضيا فذا، وكيميائيا بارعا، وله عدد من المخترعات، أشهرها محاولته الطيران.

أما حركة الشعر فقادها في هذا العصر، الشاعر الكبير يحيى بن حكم الغزال، الذي يعد شاعر الأمير عبدالرحمن المفضل، وتميز شعره عن معاصريه بحضور البديهة والجرأة والصراحة في اختيار الكلمات إضافة إلى ثقافته الواسعة وميله إلى الدعابة ما أضاف إلى شعره ظرفا ومتعة قلما تجدهما في ديوان شاعر معاصر له، وكان الغزال فضلا عن نبوغه الشعري ديبلوماسياً محنكاً اضطلع بدور سفير قرطبة في بلاط القسطنطينية وبلاط الدنمارك.

الفتنة الكبرى

عندما تولى الأمير محمد الحكم، بعد والده عبدالرحمن الأوسط، كان ذلك إيذانا باندلاع موجة من الثورات والانتفاضات طوال سنوات حكمه (في الفترة 238- 273هـ/ 852- 886م)، فقد اندلعت نيران الفتنة في مدن الأندلس وأخذت تتحدى سلطة قرطبة المركزية صراحة، فشاءت الأقدار أن يكون عهد الأمير محمد بداية لفتن وحروب وقلاقل ستستمر سنوات زادت على الستين عاما.

فقد خرج الثائرون من كل صوب يرفعون راية العصيان، منهم عبدالرحمن بن مروان الجليقي الثائر في بطليوس في شمال غرب الأندلس، والذي تحالف مع مملكة ليون المسيحية في الشمال، ودعا أتباعه لدين جديد هو خليط من تعاليم الإسلام والمسيحية، وكلَّف الحكومة المركزية في قرطبة مجهودات ضخمة من أجل القضاء عليه، وقاد عملية القضاء على هذا الثائر أقوى أبناء الأمير محمد، المنذر، إلا أن الحروب بين الجانبين امتدت سنوات بين كر وفر، ولم تستطع قرطبة إخضاع الجليقي رغم ما أنفقت من قوات، فلم يجد الأمير محمد إلا أن يعترف بعبدالرحمن بن مروان الجليقي حاكما مستقلا في بطليوس وما حولها.

وباستقلال حاكم بطليوس يكون قد انضم إلى حكام سرقسطة في الشرق من بني موسى بن موسى، وبني ذي النون في طليطلة في إعلان انفصالهم عن قرطبة، لتتمزق وحدة البلاد السياسية للمرة الأولى.

ابن حفصون

ووسط هذه الفوضى السياسية، انتقلت شرارة الثورة إلى الجنوب حيث قدر لها أن تستفحل بسرعة، وأن تغدو أخطر ما يهدد سلام الأندلس وعرش الأمويين في قرطبة بالزوال، ففي أواخر عهد الأمير محمد ظهر أخطر ثوار الأندلس على الإطلاق، وهو عمر بن حفصون بجبل بُبشتر في جنوب البلاد (بين رندة ومالقة) سنة 267هـ، والذي يصفه مؤرخ الأندلس ابن حيان قائلا عنه:"إمام الثائرين وقدوتهم، وهو أعلاهم ذكراً في الباطل، وأضخمهم بصيرة في الخلاف، وأشدهم سلطاناً وأعظمهم كيداً، وأبعدهم قوة".

يعد عمر بن حفصون من مولدي الأندلس، الذي احترف أعمال النهب والسلب وقطع الطرق، وكون عصابة من أربعين شخصا مارس معهم أعماله الإجرامية مستغلا الفوضى التي ضربت البلاد، ونزل بمكان حصين بجبل بُبشتر في سنة 267هـ/880م، يدير منه عملياته.

كانت كورة (ولاية) ريُّه تضطرم بالثورة نتيجة تعسف الوالي يحيى بن عبدالله في جمع الضرائب، فبادر أهالي الولاية لرفع لواء الثورة، وفي هذا الأفق الملبد بغيوم الفوضى، ظهر ابن حفصون بعد أن قرر مهاجمة أطراف المدن يأسر ويغنم ثم يعود إلى حصنه بجبل بُبشتر، وعندما اشتد عبثه خرج لحربه والي ريُّه، إلا أن ابن حفصون انتصر عليه، فانضم إليه المئات وبدأ أمره في الظهور وخطره في الانتشار.

ولم يجد الأمير محمد بدا من إرسال ولده وأبرز قادته العسكريين المنذر، لمحاربة ابن حفصون ورفاقه، فاستطاع الأمير المنذر بن محمد، إنزال هزيمة ساحقة بقوات ابن حفصون الذي أصيب بجروح خطيرة، واضطر إلى دخول حصن الحامة يحتمي به.

بدا للأمير المنذر أن ثورة ابن حفصون قاربت على نهايتها، فقد أحكم الحصار على حصن الحامة ولن يلبث أن يسقط، ويقضي على رؤوس الفتنة به، إلا أن الأنباء جاءت من قرطبة لتغير مصير ابن حفصون، فقد مات أمير الأندلس محمد بن عبدالرحمن، في عام 273هـ/ 886م، واضطر الأمير المنذر، ولي العهد، أن يفك الحصار عن حصن الحامة، وأن يعود إلى قرطبة ليتولى إمارة البلاد، فتنفس ابن حفصون الصعداء.

أمير جديد

جاءت وفاة الأمير محمد بن عبدالرحمن الأوسط، في ظل ظروف مأساوية تمر بها الأندلس، فالثوار خرجوا من كل مدينة، وثورة ابن حفصون عادت إلى الواجهة من جديد، بعد أن كادت تطفأ شعلتها.

كان في استقبال أمير الأندلس الجديد المنذر بن محمد، تركة مثقلة بالأعباء، لكن لحسن الحظ أنه كان قوي الشخصية متمرساً على فنون الحرب، ورغم أن مملكته كانت ممزقة الأوصال فإنه تأهب لإتمام المهمة التي بدأها في ظل حكم والده، فباشر الحرب بنفسه عازما على إنهاء الفوضى السياسية.

استغل ابن حفصون انسحاب الأمير المنذر، على خير ما يكون، فبسط نفوذه على ريُّه ورندة وإستجة وغيرها من مدن الجنوب، وراسل عدداً من ولاة حصون جنوب الأندلس، واستطاع أن يضمهم إلى ثورته.

مع تنامي خطر ابن حفصون من جديد لم يجد الأمير المنذر إلا أن يخرج إليه بنفسه على رأس قواته ليخمد هذه الثورة إلى الأبد، فتوجه إلى معقله في "ببشتر" فضرب الحصار حولها، وضيق على ابن حفصون الخناق، الذي رأى استحالة المقاومة، فلجأ إلى الحيلة، وطالب بالصلح وإعلان ولائه للأمير المنذر والذهاب معه إلى قرطبة ليعيش في ظله وتحت مراقبته، هو وأسرته، فأجابه الأمير إلى طلبه، وأمده بالثياب والدواب والمؤن، وأمده بمئة بغل لتحمل أهله وأمتعته إلى قرطبة، ورفع الأمير المنذر الحصار عن بُبشتر، وقفل عائدا صوب قرطبة مصطحبا معه عدوه الأول عمر بن حفصون.

لكن استسلام ابن حفصون لم يكن إلا حيلة يكسب بها الوقت بعد أن رأى قوة أمير الأندلس وشدة بأسه، ويأس من النصر فرغب في فك الحصار بأسهل طريقة، وعندما بعدت قوات قرطبة عن جبال ببشتر، حتى استتر ابن حفصون بظلمات الليل وهرب عائدا إلى جبال ببشتر من جديد معلنا الثورة واستقوى بما تحصل بين يديه من إمدادات الأمير المنذر التي أخذها منه مقابل استسلامه.

عنما وصل خبر هروب ابن حفصون إلى الأمير المنذر استشاط غضبا وأقسم "أن يقصده ويحل عليه ولا يقبل منه أو يلقي بيده إليه" عازما على ألا يفك حصاره على جبال ببشتر إلا بعد أن يسقط ابن حفصون في يده حيا أو ميتا، واستمر حصار قلاع ببشتر المنيعة لمدة ثلاثة وأربعين يوما أوشكت خلالها تلك الحصون أن تلقي بمفتاحها وتفتح أبوابها، إلا أن صحة الأمير المنذر اعتلت فجأة، واضطر أن يطلب من أخيه عبدالله مواصلة الحصار حتى استسلام ابن حفصون أو دخول جيشه فاتحا.

وتمكن المرض سريعا من أمير الأندلس المنذر، فمات في منتصف صفر سنة 275هـ/ يونيو 888م، بعد أن حكم البلاد لمدة سنتين لم يعرف فيهما الراحة وعمل كل جهده لإعادة الاستقرار للأندلس، وكان مؤهلا للعب هذا الدور إلا أن القدر لم يمهله.

جاءت وفاة المنذر، كمطر الرحمة على أرض مجدبة، فقد تنفس ابن حفصون الصعداء للمرة الثانية، بعد أن فك الأمير الجديد عبدالله بن محمد حصار ببشتر وأمر بالعودة إلى حاضرة البلاد قرطبة، فعمل ابن حفصون على إعادة تنظيم شؤونه ووطد دعائم سلطانه من جديد في جنوب الأندلس.

بدأ الأمير عبدالله بن محمد حكمه في ظل ظروف صعبة فالثورات والاضطرابات أصبحت شيئا عاديا من كثرتها، ونسى الجميع معنى الاستقرار لبعد عهدهم به، فرغم محاولات الأمير عبدالله فإنه لم يستطع القيام بعمل ناجع ضد هذا السيل من الثورات والفتن المتعاقبة، لكن يحسب له صموده في وجه هذا العدد الكبير من الثائرين، وتحقيقه انتصارات ساحقة على الثوار خصوصا ابن حفصون الذي هزمه هزيمة مدوية في موقعة بلاي في صفر 278هـ/مايو 891م، وتضعضعت قواته بعد هذه الهزيمة واضطر إلى الانكماش جنوبا في ولاية ريه لا يغادرها ولكن إلى حين.

ذروة الفتنة

يعد عام 286هـ/899م ذروة الفتنة والانقسام في الأندلس وأخطر السنوات على المسلمين منذ فتح بلاد الأندلس، فقد أعلن ابن حفصون اعتناقه المسيحية، وتسمى بـ"صمويل" وبدأ في الاتصال بألفونسو الثالث، ملك ليون، والثائر بإشبيلية إبراهيم بن حجاج، لعقد تحالف ضد قرطبة. واستشعر الأمير عبدالله الخطر الذي يتهدده من الشمال والجنوب والغرب، فعمل على لقاء قوات ابن حفصون المدعومة بقوات إشبيلية، في موقعة تحدد مصير عرشه وبلده، واشتبك الفريقان في "إستبة" الواقعة جنوبي "إستجة" في عام 289هـ/902م، واستطاعت قوات قرطبة أن تحقق النصر خصوصا أن المسلمين انفضوا من حول ابن حفصون بعد إعلان نصرانيته، واعتبروا قتاله جهادا في سبيل الله.

وكانت أيام الأمير عبدالله على وشك الانتهاء بعد حكم دام 25 عاما، ناهض خلالها الثوار بكل ما أوتي من قوة، إلا أنه فشل في مهمة إعادة الاستقرار الغائب، ولم تتجاوز سلطته أسوار قرطبة والأحواز التابعة لها، فيما استقل كل ثائر بما تحت يديه. وتُوفي عبدالله في ربيع الأول سنة 300هـ/ أكتوبر912م، بعد أن عهد بولاية الأندلس إلى حفيده عبدالرحمن بن محمد بن عبدالله، ذلك الشاب الذي كفله جده منذ صغره بعد مقتل والده محمد وأسكنه معه في قصره، ولما بلغ أشده وظهرت نجابته، عني بتعليمه وتربيته، وقربه إليه وأولاه ثقته ثم جعله كاتب سره، وكان لهذا الشاب الذي لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره أن يواجه كل هذا الميراث من المشاكل والثورات والانقسامات، وأن يخوض في بحور من دماء الأعداء إذا كان يريد الحفاظ على عرشه.

فقد كانت الأندلس تضطرم بالفتنة تسودها الفوضى، انقطع عن أهلها الرجاء وتوقعوا نازلة تنزل بهم تقضي عليهم، وتعلق أمل الجميع بحاكم عادل يعيد بعض الهدوء إلى الأندلس، وكان القدر رحيما بهم فقد كانت الأندلس تتأهب لاستقبال أعظم حكامها على الإطلاق الذي لن يعيد الهدوء فقط إلى الأندلس بل سينقلها إلى مرتبة من العظمة والقوة لم تبلغها من قبله، وستصل حضارة الإسلام في الأندلس إلى قمتها على يديّه.