يدور الحديث بشكل متسارع عن تدويل القضايا، وبالذات ما يتعلق منها بحقوق الإنسان، وعندما تتجاوز دولة ما حدودها، وتنتهك حقوق الناس ويتكاثر عدد الضحايا، ولا يجدون لهم معيناً أمام سلطةٍ لا تقيم وزناً لحرية ولا قيمة لكرامة، يبدأون في ترديد، ليس لنا إلا التدويل سبيلاً.

Ad

 وفي سلسلة مقالاتنا عن التحولات الدولية وحقوق الإنسان وجدنا من المهم إعطاء قدر من التركيز لقضية التدويل، وكيف يمكن لها التقليل من قهر الحكومات لمواطنيها وغير مواطنيها، وما هي الأدوات المتاحة للناس لكي يستخدموها ضد حكوماتهم، وهل اللجوء إلى المنظومة الدولية بمستوياتها المختلفة جائز سياسياً وأخلاقياً وقانونياً؟ أي هل مَن يتحرك دولياً يعد مخالفاً لشروط سيادة الدولة؟ وهل اللجوء إلى الآليات الدولية مفيد أصلاً؟ وهل لنا أن نتوقع نتائج ناجزة ومفيدة ترفع الظلم وتخفف من العنت الواقع من سلطة غاشمة على أناس أبرياء عبّروا عن رأيهم بطريقة سلمية؟ وهل هناك انتقائية في المعايير التي تستخدم في المنظومة الدولية؟ أم أننا أمام معايير جامعة مانعة يتم تطبيقها دون تحيز ودون تمييز؟

الدولة التي نعرفها اليوم والمسماة "الدولة القومية" التي تقوم على مفهوم السيادة وترتكز على مفهوم آخر لا يقل أهمية، وهو المواطنة، ليست مخلوقاً أزلياً، بل هي مخلوق حديث بدأت خطاه الأولى في منتصف القرن السابع عشر في أوروبا، في إطار ما عرف بـ"سلام وستفاليا" وهي عبارة عن مجموعة اتفاقيات في 1648 أنهت حروباً مضنية كحرب الثلاثين سنة في الإمبراطورية الرومانية، وحرب الثمانين سنة بين إسبانيا وهولندا. وقد خلقت تلك المعاهدات أسساً للنظام الدولي الجديد تم فيه انتصار الدولة "ذات السيادة" على الإمبراطورية، وحددت محاذير عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وفتحت الباب على مصراعيه لمفهوم حق تقرير المصير. ودخلنا بذلك عالماً يقوم على كيان سياسي جديد اسمه الدولة. وأصبح اسم النظام السياسي الكوني "النظام الدولي" والعلاقات الكونية "العلاقات الدولية" وهو الفضاء الذي يجري فيه ما يسمى التدويل، وبالتالي فكل ما نتحدث عنه هو خاضع للتغيير، فلربما بدأ النظام الدولي فعلاً في رسم معالمه في منتصف القرن الماضي ومازال يتغير ويتخلق كما سنرى.