موقعة الجمل:
يموج الشارع في مصر الآن موجات من الغضب، لصدور حكم محكمة جنايات القاهرة ببراءة كافة المتهمين بقتل الشهداء في ميدان التحرير يوم الأربعاء 2 فبراير، في ما يعرف بموقعة الجمل، حيث إن بعضهم من نواب الحزب الوطني الحاكم، وقتئذ وغيرهم من أعضائه ورموز النظام، بالاتفاق مع بعض البلطجية الذين كان النظام يستخدمهم دائما في تهديد وترويع المواطنين، وخاصة خلال المعارك الانتخابية، على الهجوم على الثوار في ميدان التحرير وفض اعتصامهم بالقوة وإخراجهم من الميدان، فاقتحم البلطجية الميدان على صهوات الخيول والجمال ليعتدوا بالضرب على المتظاهرين ويفرقون جموعهم، في الوقت الذي كان بعض هؤلاء البلطجية قد تم الاتفاق معه على اعتلاء أسطح المباني المطلة على الميدان لإلقاء قنابل المولوتوف على شباب الثورة، وقيام بعض البلطجية من القناصة بإطلاق الرصاص على رؤوس بعض الشباب.أسباب حكم البراءة: وقد استند الحكم في ما استند إليه على عدم كفاية الأدلة وعدم الاطمئنان إلى شهود الإثبات، وأن بعضهم كان "مسجل خطر"، أي ممن لهم سابقة الإجرام، كما استند إلى شهادة أحد ضباط القوات المسلحة الموجودة في الميدان، والتي نزلت إلى شوارع القاهرة بعد انسحاب الشرطة وقوات الأمن المركزي من الميادين والشوارع، بل من بعض الأقسام (المخافر)، حيث شهد اللواء حسن الرويني أنه لم يشهد أو يبلغ بوجود قتلى في الميدان في هذا اليوم.كما استند الحكم إلى أن كافة من تم القبض عليهم في هذا اليوم، قد تمت محاكمتهم أمام القضاء العسكري.غضب الشارع المصري:وقد أعلن العديد من القوى السياسية تنظيم احتجاجات يوم الجمعة أمس الأول في ميدان التحرير والميادين الكبرى بالمحافظات للتعبير عن غضب الشعب لصدور هذه الأحكام، وأعلن حزب الحرية والعدالة الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين، مشاركته في هذه الاحتجاجات، كما نظمت حركة شباب 6 أبريل مسيرة يوم الخميس إلى مكتب النائب العام للمطالبة بإعادة المحاكمة.محاكمة المتهمين بقتل أوكينو: وقد استعدت من الذاكرة، الإضراب الذي نظمه المحامون في الفلبين، والذين نظموا مسيرة، وهم يرتدون أرواب المحاماة، ويرفعون شهاداتهم التي مزقوها، استنكارا للحكم الذي أصدرته إحدى المحاكم ببراءة قتلة أوكينو زعيم المعارضة في الفلبين. استعدت هذه الواقعة وأنا أتابع المؤتمر الذي دعت إليه نقابة المحامين في مصر للاحتفال باليوبيل المئوي للنقابة، التي مضى على إنشائها مئة عام وأصابتني الدهشة والصدمة عندما لم يتخذ المحامون في مؤتمرهم موقفا مماثلا أو مشابها لموقف محامي الفلبين، ولو بالوقوف دقيقة احتجاجا على هذا الحكم، وهو ما لم يحدث.حرية القاضي في تكوين عقيدته:صحيح أن القاضي الجنائي حر في تكوين عقيدته من الأدلة والقرائن التي تقدم أمامه، ومن التحقيقات التي يتعين عليه أن يجربها بنفسه، دون اعتماد على التحقيقات التي أجرتها النيابة العامة أو جهات التحقيق.وصحيح أن الإدانة يجب أن تقوم على أساس الجزم واليقين وليس على أساس الظن والتخمين. وأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال "ادرؤوا الحدود بالشبهات"، وأن بعض المتهمين قد طلبوا رد المحكمة، وأن دائرة أخرى نظرت طلب الرد ورفضته لعدم قيامه على أساس سليم من القانون أو الواقع، وأن المحكمة استأنفت نظر الدعوى، وأصدرت حكمها ببراءة كافة المتهمين دون أن يترك طلب المتهمين ردها أي أثر لديها، بل كما قالت في أسباب حكمها- أصدرت حكمها ببراءة المتهمين، عملاً بقول المولى عز وجل "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى"... ولكن هناك من الأقوال المأثورة "ظلموا ليشتهروا بالعدل".الرئيس وسيادة القانون: وقد كان من تداعيات هذا الحكم، تلك الغضبة التي أطلقها الشارع في مصر من خلال القوى السياسية التي دعت إلى حشد الجماهير يوم الجمعة أمس الأول لإظهار غضبة الشعب لدماء الشهداء، والتي أراد رئيس الجمهورية أن يحتويها، فأصدر قراره بإقالة النائب العام وتعيينه سفيراً لمصر لدى الفاتيكان.ولعل ما يسترعي النظر في هذا القرار:1- مخالفته لأحكام دستور 1971 في ما نصت عليه المادة 168 من أن "القضاة غير قابلين للعزل، وينظم القانون مساءلتهم تأديبيا"،وهو الحكم الذي ردده الإعلان الدستوري الصادر يوم الأربعاء 30 مارس سنة 2011. والنائب العام هو أحد قضاة مصر الذين يحصنهم القانون ضد العزل.2- أن مؤسسة الرئاسة قد نصبت نفسها محكمة تأديبية، وأصدرت حكمها بعزل النائب العام، دون أن يوجه إليه اتهام ودون أن يحقق معه بالرغم من أن مؤسسة الرئاسة من شهد أمامي شخصيا بنزاهة النائب العام وعدالته وتاريخه المشرف.3- أن النيابة العامة لم تكن هي التي قامت بالتحقيق في هذه القضية، وأن قضاة التحقيق الذين انتدبهم رئيس محكمة الاستئناف السابق هم الذين قاموا بالتحقيق فيها، وهم الذين أحالوا القضية إلى المحكمة.وبذلك فإن عزل النائب العام، يكون قد وقع كذلك في حومة مخالفة شرعية هي مخالفة قوله تعالى: "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى".4- مخالفة هذا القرار لما أعلنه رئيس الجمهورية في خطابه الذي ألقاه في مؤتمر المحامين احتفالا بعيد النقابة المئوي، من أن هذا الاحتفال، يرمز إلى أن مصر هي دولة قانون منذ عشرات السنوات.5- أنه لا يجوز اتخاذ ما يسوقه البعض من الشرعية الثورية، لإهدار مبدأ سيادة القانون واستقلال القضاء، وقد كان ترسيخ هذين المبدأين هدفاً أساسياً للثورة.
مقالات
ما قل ودل: عزل النائب العام في مصر... أسبابه وتداعياته
14-10-2012