أزعم أن أحداً لا يمكن أن يتنبأ على سبيل الجزم واليقين بالحكم الذي سوف تصدره المحكمة الدستورية في الكويت في الطعن المقام أمامها بعدم دستورية قانون تقسيم الدوائر الانتخابية الصادر في عام 2006، وهو الطعن الذي يقوم في جوهره- حسب زعم الطعن- على إخلال التفاوت الكبير في أعداد الناخبين في ثلاث دوائر من الدوائر الخمس بمبدأ العدالة ومبدأ المساواة.

Ad

إذ كشفت الأعمال التحضيرية للدستور الممثلة في مناقشات المجلس التأسيسي حول المادة (81) من الدستور التي حملت المشرع أمانة تقسيم الدوائر الانتخابية، عن الإرادة الحقيقية للمشرع الدستوري، حيث أقر المجلس التأسيسي حكم هذه المادة، على أساس من التفسير الذي قال به الخبير الدستوري في رده على سؤال أحد أعضائه، حول الأساس الذي تقسم فيه الدوائر الانتخابية هل حسب المناطق أو حسب عدد السكان؟ فأجاب الخبير الدستوري بأن هذا الموضوع يتناوله قانون الانتخاب لا الدستور، وقوانين الانتخاب في تحديدها الدوائر الانتخابية، إما أن تقوم على أساس عدد السكان, وإما أن تكون على أساس جغرافي، فكلا الأمرين وارد (مضبطة الجلسة 21 صفحة 6).

أي أن المجلس التأسيسي أقر ضمناً تفسير الخبير الدستوري لحكم هذه المادة وهو تفسير من شقين:

الشق الأول: أن هذه المسألة لا تتناولها الدساتير، بل مجالها القوانين.

الشق الثاني: أن الدستور عندما ترك للمشرع تنظيم هذه المسألة لم يقيده في ذلك بأن يكون التقسيم بحسب عدد السكان أو بحسب التقسيم الجغرافي، بل ترك ذلك لتقدير المشرع.

ومن هنا فإن الرقابة القضائية التي سوف تسلطها المحكمة الدستورية على قانون الانتخاب، وهي رقابة لا تتقيد بغير أحكام الدستور، وعليها أن تتقيد بما تبناه الآباء الأوائل الذين وضعوا هذا الدستور ممثلين في المجلس التأسيسي من تفسير صحيح لهذه المادة عبر عن الإرادة الحقيقية للمشرع الدستوري، فما أغناها المحكمة بهذا التفسير عن أن ترد المورد الصعب الذي يقحمها في مسائل تتعقد جوانبها وتختلف الآراء حولها.

التقسيم يسانده عرف مفسر ومكمل

ولا جدال في أن تفسير المحكمة الدستورية للنصوص المدونة في الدستور، سوف يتأثر بالقواعد العرفية القائمة إلى جانبها، وأن اضطراد العمل بتقسيم الدوائر الانتخابية حسب المناطق في كافة التشريعات الصادرة بتقسيم الدوائر الانتخابية، والاقتناع بضرورة هذا التقسيم والخضوع له عل مدار ما يقرب من نصف قرن، وذلك منذ أول قانون لتقسيم الدوائر الانتخابية صدر في عام 1961 بتقسيم الكويت إلى عشر دوائر، وما طرأ عليه من تعديل بالقانون رقم 25 والقانون رقم 28 لسنة 1961، وما تلاهما من تقسيم الكويت إلى خمس وعشرين دائرة بالقانون رقم 99 لسنة 1980 المعدل بالقانون رقم 5 لسنة 1996، إلى أن صدر القانون رقم 42 لسنة 2006 المطعون عليه، بما يخلق عرفاً مفسراً ومكملا لنص المادة (81) من الدستور، وهو عرف لا يناقضها ولا يأتي عملا على خلافها، وهي تشريعات لم تنحرف عن مقاصد الدستور أو تتنكبها كما أسلفنا، بما يخلع عليها الصحة الدستورية، من خلال ربطها بأغراضها واتصالها عقلا بها، باعتبار هذا التقسيم من ملاءمات التشريع، الذي هو أخص مظاهر السلطة التقديرية للمشرع، طالما لم يقيده الدستور بحدود وضوابط يتعين على التشريع التزامها وإلا عد مخالفا للدستور.

وأزعم أن التفاوت بين أعداد الناخبين في الدوائر الانتخابية، لم يخلُ منه قانون واحد من قوانين تقسيم الدوائر الانتخابية.

التقسيم يحقق العدالة

وأغلب الظن أن المشرع رأى أن هذا التقسيم هو الذي يحقق العدالة في تمثيل كافة فئات وأطياف المجتمع الكويتي، التي تتمركز في مناطق بعينها، يمكن أن تصلح أساسا لهذا التقسيم، وأن جوهر النظام الديمقراطي هو تمثيل الأقليات، حتى لا تنفرد طائفة أو طيف أو لون معين من طوائف وأطياف وألوان المجتمع بالسلطة، فيتحول النظام الديمقراطي إلى نظام استبدادي وإقصائي.

وهو ما حاول الآباء الأوائل للدستور الأميركي تحقيقه من خلال الجمع بين النظامين، التمثيل حسب عدد السكان في مجلس النواب، وتمثيل كل ولاية بعدد متساو في مجلس الشيوخ هو عضوان عن كل ولاية.

ومن هنا فإن قضاء المحكمة العليا الاتحادية الأميركية في قضية ولسبري ضد ساندرز سنة 1964 بعدم دستورية التفاوت بين عدد سكان الدوائر الانتخابية، بسبب تفاوت الوزن النسبي لصوت الناخب بتفاوت عدد الناخبين الذين يختارون واحدا في كل دائرة، إنما كان في إطار من الأخذ بالنظامين، فلم تجد المحكمة العليا مبررا لهذا التفاوت في أعداد الناخبين من دائرة إلى أخرى في انتخابات مجلس النواب مع التمثيل المتساوي لكل ولاية في مجلس الشيوخ، بما يحقق العدالة في تمثيل كل فئات وأطياف المجتمع الأميركي، بحيث يصبح هذا القضاء محل نظر في نظامنا الذي لا يأخذ بنظام المجلسين.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.