مجادلة قديمة أيام الدراسة الجامعية علمتني الكثير، علمتني أن التغلب على أوهامنا وكشف هشاشة المسلمات وما نراه بدهياً بسبب ذاكرة أو تلقين أو نقل؛ أهم من دافع التغلب على الخصوم، أو من نراهم كذلك بسبب اتخاذهم موقفاً مخالفاً.
في إحدى محاضرات الأستاذ في قسم اللغة العربية د.عدنان غزال أتى بذكر الشاعرة مي حنا زيادة قائلا: "طبعا كلكم تعرفون أنها أشهر الشاعرات العازبات وتعرفون النهاية الأليمة لحياتها..."، لأرفع يدي قبل أن يكمل حديثه مدفوعة بـ"اليقين" الذي يتوسد معلوماتي: دكتور: مي كانت متزوجة ولها ابن شهيد!ليرد د.غزال: أنا متأكد من معلومتي!وكنت أنا أيضا متأكدة لأني أيامها كنت أقرأ في كتاب عن الشاعرات، ومتأكدة أيضا من اسمها، أضفت: كانت تلقب بشاعرة الأمومة بسبب قصائدها العذبة لابنها الراحل.صمت د.غزال، وقال: لنؤجل حديثنا إلى الغد يا أفراح، سأعود إلى كتبي، وأنت أرجوك عودي إلى مصدر معلومتك.في اليوم التالي، سألني: هل راجعت مصدرك؟ ابتسمت ووقفت معتذرة: نعم دكتور، من قصدتها بشاعرة الأمومة مي حنا سعادة، التبس علي الاسم! ضحك، وقال: إذاً لم نكن بعيدين عن الحقيقة، أنا قصدت مي حنا زيادة وأنت قصدت مي حنا سعادة، وتهنا بين المَيّتين!أتصور لو أن أستاذي الذي أحتفظ له بكل الودّ والاحترام لم يقابل يقيني بالحلم والأناة وطلب الرجوع إلى المعلومة، لما تعلمت هذا الدرس الذي أستذكره دوماً كلما دخلت في جدال، قبل أن يحتد النقاش أقول لنفسي ولمحاوري: تمهل... ليعد كل منا إلى مصدر معلومته ونلتقي غدا.وفي حياة كل منا مواقف شبيهة، نتصرف وكأننا ملاّك الحقيقة، في مواضع أكثر تعقيداً وشدة، ما يفترض حاجة إلى الأناة والتمهل بدرجة أكبر، ولكن صعبٌ قبول فكرة جديدة تقتحم النسق الموضوع بعناية على رفّ المسلّمات، نجزع وننتفض للذود عنها، لا نحتمل معلومة مختلفة، لا نقبل بطرح الأسئلة، لا نسمح برؤية موضوعية تقلب الطاولة، كما نرفض الطاولة التي تتضمن الأوراق كلها... لأن ما بحوزتنا أهم وأغلى ولا يسعه إضاعة وقت على تفكّر إضافي!من قال إن في هذه الدوغمائية تفكراً أصلاً؟ إنها الحقيقة المطلقة المحنطة! وأتحدث بضمير المتكلم الجمعي لأننا جميعا بلا استثناء نقع في عثرات العقل الدوغمائي ما لم ننتبه و"نتمهل"، العقل المولع بتصنيف حدّي فإما أبيض أو أسود، لا يرى الألوان بينهما التي تتسع فيها هوة الرمادي لونا يدعو إلى البحث عما وراء هذا الغموض، إما على اليمين وإما يسارا، وبإسقاط لا مهادنة كما نرى في مجتمعنا... بين الجنة أو النار!بطبيعتنا نميل نحو المثالية التي نتمناها لكل شيء، والتي تقترب من الجمود لتحافظ على رونق بقائها، شعور قديم بالحاجة إلى الطمأنينة والبقاء في ما نطمئن إليه والتحصن به، لا نفكر كيف يمكن لشخص أن يتعصب لفكرة إلى هذا الحد رافضا وجود شخص آخر يتعصب لفكرته في المقابل وبالدرجة نفسها، لو تخيلنا المرآة التي تعكس لنا ما نحن فيه لما فوجئنا بعدد المرايا التي يتراكم حطامها نتيجة هذا التحجر، لأن الآخر المنعكس ببساطة لا يحمل أفكارا شبيهة، نحن من أردناه انعكاسا لنا في المرآة فما انعكس سوى التعنت.لو أننا نحمل الشك المنهجي، والسؤال الهادئ، ونراجع معلوماتنا و... نتمهل!
مقالات
مهلاً بين المَيّتين
20-09-2012