الأصل والصورة

نشر في 31-07-2012
آخر تحديث 31-07-2012 | 00:01
 طالب الرفاعي كان لوالدي صديق خفيف الظل، كلما لمح صورة الممثل المصري "محمود المليجي"، الذي جسّد معظم أدوار الشر على شاشة السينما المصرية، يبادر إلى القول:

"هذا سبب كل المشاكل في مصر".

وإذا كان قول صديق والدي يأتي محمولاً على خفة ظله، فإنه لم يكن بعيداً عن حقيقة تأثر الجمهور الملتقي بالصورة التي يرسمها الفنان لنفسه عبر أدواره في الأفلام والمسلسلات التلفزيونية والسينمائية. والأمر ذاته يبدو منطبقاً على صورة الكاتب في أذهان جمهور قرائه. فصورة أي كاتب تتكون في ذهن قرائه عبر تراكم كمي غير محسوس، فحين يقرأ المتلقي مقالاً وآخر، ويتبعه بكتاب وآخر لكاتب بعينه، تبدأ صورة ما لذاك الكاتب بالتشكل في ذهنه. والأمر يبدو أكثر تعقيداً بالنسبة لأولئك الكتّاب الذي يكتبون قصصاً قصيرة أو روايات، مستخدمين صيغة "ضمير المتكلم". فيتوهم بعض القراء بتطابق شخصية السارد مع شخصية المؤلف. وتأتي المفاجأة حين يقع لقاء حقيقي بين القارئ والكاتب، فيأتي الكاتب حاملاً شخصيته الإنسانية الحقيقية، بينما يقابله الآخر، وهو يحمل عنه شخصية أخرى قرأها في أعماله، ومؤكد أن شخصية الكاتب الحقيقية هي غير شخصيته في أعماله، مما يربك القارئ وقد يضعه في حيرة، وأحياناً خيبة، في أنه يرى ويحادث شخصاً مختلفاً عن ذاك الذي رسم صورته في ذهنه، وربما ردد بينه وبين نفسه قول العرب: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه".

إن السير على درب العمل الإبداعي، وتحديداً كتابة "السرديات"، القصة القصيرة والرواية، تضع الكاتب أمام حقيقة أن يلتقط جذر عوالم حكاياته وأبطاله من البيئة والواقع الذي يحيط به، ليسبك ذلك في حبكة تخيلية تحدد مسارات ومصائر أبطاله ونهاية حكاياتهم. ومؤكد أنه سينثر أجزاء من حياته الحقيقية وقناعاته بين جوانب النص، إن تلميحاً أو تصريحاً. لكن هذا بالضرورة لا يعني أن كل ما يكتبه الكاتب إنما يجسد من خلاله شخصيته الحقيقية. وهذا هو المأزق الأكبر في كتابة السير الذاتية.

إن الكاتب ليرضى لنفسه السير في حقل ألغام متى ما أسلم قلمه لكتابة سيرته الذاتية الحقيقية، فليس من مجتمع من المجتمعات يحتمل صدقاً إنسانياً خالصاً، يرى من خلال الإنسان في لحظات ضعفه وتعاسته وانحداره ودناءته وتخبطه وربما سوءاته. لذا ظل الكاتب الأميركي "هنري ميلر- Henry Miller" يحمل كتابه "مدار الجدي" سنوات، دون أن يستطيع إيجاد ناشر يوافق على طباعته ونشره. وللسبب عينه، يُنظر إلى رواية الفرنسي "جان جينيه- Jean Genet"، "يوميات لص" بأنها واحدة من أكثر روايات السير الذاتية صدقاً آسراً، ويصعب على أكثر الكتّاب الروائيين جراءة في العالم، الوصول إلى الصدق الإنساني والفني الصادم الذي خطه قلم وخاطر وصراحة جان جينيه. فحين يُقْدم كاتب على صياغة مشهد يعري من خلاله واقعة صادمة، فهو إنما يجاهر بكشف عورة من عورات المجتمع، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أننا نعيش في مجتمعات تؤمن بمبدأ "ستر البلاء"، فإن كتابة المؤلف لمشهد فاضح تكاد تكون بمنزلة الخنجر الذي يجرح ويدمي خاصرة خيمة الفضيلة التي يرتضيها المجتمع عنوة لنفسه، ويستميت في ضرورة الدفاع عنها والمحافظة عليها، حتى ويقينه بعدم صدق وجود مثل هذه الخيمة بتلك الفضائل.

إن تسليط الضوء على البؤر الاجتماعية غير الإنسانية والمظلمة والبائسة وغير العادلة مهمة مقدسة للكاتب المبدع المشتغل بمختلف أجناس الإبداع الإنساني. فهو حين يكشف خبثاً وظلماً مختبئين، ويعري واقعة تُحاك في ظلمة السر، لا يمارس ذلك حباً بالمجاهرة بالسوء، ولكنه يكون قد نذر قلمه لقول الحقيقة، حتى لو كانت مؤلمة وبشعة.

back to top