-1-

Ad

في مقالنا السابق، قلنا إن خسائر العرب من التوغل الأميركي في الشرق الأوسط، تتلخص في:

1- أن التوغل الأميركي في الشرق الأوسط قد أضرَّ بالمنطقة من حيث اعتباره تجسيداً للخطر الذي تمثله الرأسمالية والنوايا الإمبريالية.

2- يقول الأصوليون إن أميركا تدعم الأنظمة العربية المحافظة، كما تدعم الأنظمة ذات الميول العلمانية في العالم العربي، وهذا مكمن الخطر، من حيث إن العلمانية دعوة إلى الإلحاد كما يقول أحدهم. ويعتبر هؤلاء أن التوغل الأميركي في الشرق الأوسط ما هو إلا حرب صليبية جديدة لتجسيد القيم الغربية والعداء المستتر للمجتمع الإسلامي.

3- يتفق معظم الأصوليين الدينيين والقوميين، على أن التوغل الأميركي في الشرق الأوسط، يهدف إلى محو الهوية العربية- الإسلامية أولاً (هكذا وبكل بساطة) ولسيطرة الاقتصاد الأميركي على الأسواق العربية، ولنهب ثروات المنطقة، وإشعال الحروب الأهلية.

4- يتفق معظم العرب على أن الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط هي لمصلحة إسرائيل، وضد مصلحة العرب، باعتبار أن أميركا هي الحليف الغربي والقوي لإسرائيل. وأنه كلما تعاظم الوجود الأميركي في الشرق الأوسط تعاظم الدعم لإسرائيل، وقلل من فرص السلام العربي- الإسرائيلي. وأن الضرر الأكبر للعرب من الوجود الأميركي في الشرق الأوسط، هو استقواء إسرائيل عليهم، ورفضها لخطط السلام وتلكؤها في تنفيذها، حتى تلك الموضوعة من قبل الإدارة الأميركية. ولكنا رأينا بالمقابل أن الذي يتحرك فعلياً بالمال والسياسة لإرساء قواعد السلام العربي- الإسرائيلي في الشرق الأوسط هي أميركا بدءاً من إنذار أيزنهاور للدول المعتدية (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل) في حرب السويس 1956، وانتهاءً بمباحثات كامب ديفيد (كلينتون- عرفات- باراك) عام 2000، ومروراً باتفاقية "كامب ديفيد" 1979 بين إسرائيل ومصر التي كلّفت أميركا حتى الآن 130 مليار دولار، بواقع خمسة مليارات دولار سنوياً بدءاً من 1979 حتى الآن.

5- يتفق معظم العرب على أن الوجود الأميركي في الشرق الأوسط قد أضرَّ بالشعوب العربية من حيث إنه وقف إلى جانب الأنظمة العربية المحافظة التي كان يُطلق عليها في الأدبيات السياسية الناصرية "الأنظمة الرجعية". وأن أميركا قوّت من شوكة هذه الأنظمة، وجعلتها تفتك بشعوبها على نحو ما سبق، ولكن هؤلاء العرب ينكرون أن ذلك كان من إفرازات الحرب الباردة بين القوتين العظميين، وأن الاتحاد السوفياتي عندما وقف إلى جانب الدكتاتوريات الجمهورية العربية (مصر، سورية، ليبيا، الجزائر، اليمن الجنوبي، فلسطين) أثناء الحرب الباردة، اضطر أميركا إلى الوقوف إلى جانب الأنظمة المحافظة في الخليج والأردن والمغرب وتونس، حفظاً لتوازن القوى في المنطقة.

-2-

تلك كانت خسائر العرب من التوغل الأميركي في الشرق الأوسط،

أما أرباح العرب من التوغل الأميركي في الشرق الأوسط، فذكْرُها غَمٌ، وتعدادُها هَمٌ، وشرحُها سمٌ.

وهي مستهجنة، ومكروهة، وغير مرغوب بها في الأدبيات السياسية الدينية والقومية.

فأنت ككاتب ومحلل سياسي عربي "أصيل"، عليك أن تكون صادقاً وقومياً مناضلاً فاضلاً، ولا يتأتى ذلك، إلا بأن تتخذ موقفاً عدائياً دائماً (على طول الخط) من أميركا، وإلا اعتُبرتَ في صف الخونة، والأنذال، وعملاء المخابرات الأميركية، وصدى لـ(المحافظين الجُدد Neo-Cons)، إلى آخر قائمة الاتهام العربية المعروفة هذه الأيام، والمكتوبة بماء الذهب على البوابات العربية، مهما كانت حجتك، ومهما وصلتَ إلى درجة كبيرة من النزاهة والشفافية. حيث لا نزاهة ولا شفافية- في عُرف العرب- تصبُّ في مصلحة أميركا التي جرّعت العرب كأس المُرَّ الذي لا ذنب لهم فيه كما يقولون.

وما أكثر ذنوب العرب في هذه الكأس، ولكنهم لا يعترفون!

-3-

أما الأرباح العربية "المسمومة" من التوغل الأميركي في الشرق الأوسط فهي باستحياء، وخجل، ووجل على النحو التالي:

1- أن أميركا أصبحت بالنسبة إلى العرب كملح الطعام لا يُستطاب طبيخ عربي إلا به، والطبيخ العربي بدون الملح الأميركي، يصبح طبيخاً "دِلِعاً" لا طعم له. وهذا التشبيه يختلف عن تشبيهاتنا السابقة "أميركا ليل العرب ونهارهم، وشغلهم الشاغل" التي أُوخذنا عليها. فأينما تلفَّت العربي في وطنه يجد أميركا أمامه، إما بسلاحها، وإما بطعامها، وإما بموسيقاها، وإما بأفلامها، وإما بكتبها، وإما بأموالها، وإما بقمحها، وإما بوجهها القبيح، أو وجهها الجميل.. إلخ. وهي من هذه الناحية أصبحت (بعد 11 سبتمبر 2001) على وجه الخصوص، الضابطة للحياة العربية السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية. فما تستقيل أو تُؤلف حكومة عربية جديدة، إلا ويقال إن ذلك بوحي من أميركا، وما إن تُعطى حقوق للمعارضة أو للنساء أو للمهمشين، إلا يقال إن ذلك بأوامر أميركية، ولا يتحرك حجر عربي عن حجر إلا يقال كان ذلك بمشيئة أميركا.  وفي هذا جزء كبير من الصحة، وفيه جزء آخر من الوهم.

وفائدة العرب من كل هذا أنهم أصبحوا يضبطون خطواتهم، ويدركون أن هناك رقيباً دولياً يُحاسب ويُعاقب، وأن الوطن العربي ليس مركباً أو "فلوكة" في المحيط، يخرقها من يشاء، ويعبث بها من يشاء. وإنما أصبح الوطن العربي جزءاً لا يتجزأ من باخرة ضخمة، عابرة للقارات، وخرقها هو إغراق للعالم كله، وليس للعالم العربي فقط.

2- وبقدر ما ساهمت أميركا في إشعال الحروب في الشرق الأوسط، ساهمت كذلك في ترسيخ السلام في الشرق الأوسط، والسلم الأهلي. وهي التي دفعت حتى الآن (1979- 2005) أكثر من خمسمئة مليار دولار (تكلفة اتفاقية كامب ديفيد 1979، وحرب تحرير الكويت، واتفاقية وادي عربة 1994، وغزو العراق) من جيب دافع الضرائب الأميركي. وهو مبلغ لا تقدر عليه أي قوة على الأرض.

3- أنعشت أميركا اقتصادات دول العالم العربي الفقيرة (مصر، الأردن، المغرب، لبنان). فالدول التي انضمت إلى اتفاقية "التجارة الحرة" استطاعت أن ترفع رقم صادراتها إلى الأسواق الأميركية بشكل مذهل. فبعد أن كانت صادرات الأردن إلى الأسواق الأميركية- مثالاً لا حصراً- في عام 1998 لا تتجاوز 13 مليون دولار أصبحت في عام 2004 حوالي 1.1 مليار دولار. وهو رقم لم يكن الأردن يحلم به.

4- لا شك أن أميركا بعد كارثة 11 سبتمبر 2001 قد أظهرت "العين الحمراء" للأنظمة العربية المحافظة و"الثورجية" الصديقة والعدوة على السواء. وراحت تنتقد هذه الأنظمة بشدة من أجل مصالحها (الحفاظ على تدفق البترول، ولكن ليس بالأسعار التي تحددها هي كما يدّعي البعض، بل بأسعار السوق كما شاهدنا في الأعوام الماضية، وهذا العام) وحتى لا تتكرر كارثة 11 سبتمبر. وقد ساعدت "العين الحمراء" هذه المعارضة العربية في معظم دول الشرق الأوسط على رفع صوتها، وتشديد لهجتها، وتوسيع دائرة خطابها، وزيادة مطالبها. وحقق بعضها نجاحات ملموسة على أرض الواقع (السعودية، الكويت، البحرين، مصر، سورية، لبنان، فلسطين). ولولا هشاشة المعارضة العربية، وسوء تنظيمها، وشيخوخة قياداتها، وارتهان زعمائها للطائفية الدينية والعرقية والسلفية، لحققت المزيد من النجاح والمكاسب.

5- وهناك فوائد كثيرة وأرباح متفرقة حققها العرب من خلال هذا التوغل الأميركي في الشرق الأوسط، والمزيد من طرحها وشرحها يُوجع القلب العربي، ويُهرّب النوم من عيون العرب الناعسة، ولكن العين العربية البصيرة لا تخفيه ولا تخطئه. ونظرة سريعة إلى ما يحيط بنا في هذا الفضاء العربي منذ 11 سبتمبر إلى الآن، تعطينا دليلاً قوياً على ما ربحنا وما خسرنا.

إنها التجارة السياسية العربية مع الشريك الأميركي.

و"التجارة ربح، وخسارة!".

* كاتب أردني