حبوب «التناحة»
«التناحة» باللهجة المصرية تعني بلادة الشعور أي عدم الاهتمام والانفعال الزائد تجاه كل ما يحدث ويحصل للمرء من أحداث وعدم التفاعل معها أو التأثر بها وتركها تمر بهدوء بارد وبلا أدنى مبالاة بها كأنها تحدث في عالم آخر لا يخص صاحبه، وربما بتنا الآن جميعنا في حاجة إلى التلبس بها والعيش بها كطوق للنجاة من واقع الأحداث الأليمة التي تحاصر مركبنا العربي الذي يوشك أن يغرق ما لم تمتد إليه يد اللطف والرحمة لتنقذه من مصير غامض قاتم.هذا معنى «التناحة»، أما الحبوب فالمقصود بها المهدئات، فحبوب التناحة تعني الحبوب الخاصة بتهدئة النفس وانفعالاتها، وهو ما نصحتني به صديقتي المصرية التي باتت من متعاطيها بسبب الأحداث التي تمر بها مصر والأمة العربية، لكني وجدت طريقة أو توصلت إليها بالتدريج وبقيادة وإرشاد الحس الذاتي الذي قادني وأوصلني إلى مرحلة جديدة عليّ بدأت أكتشفها وأعيشها الآن، وربما تكون بفضل النضج العمري الذي له الدور الكبير في تخليصنا من أمور كثيرة تعوق الحياة وتربطها بمفاهيم وأفكار ومعتقدات وأعراف وعلاقات تقيد حياتنا وتشدها في تروس الخوف من الخطأ ومن الصور المشوهة التي تنطبع لدى الآخر عنا وأحكامه التي تعرقل مسيرة حياتنا، وصفتي هذه أفضل بكثير من أي وصفة لحبوب وعقاقير المهدئات، وهو ما أسميه بمرحلة تحرير العقل أي انعتاقه من كل ما يحاصره من أفكار ومعتقدات وانفعالات ومقولات وصراعات وأحداث ضاغطة تقوده إلى التوتر والانغماس في مشاعر طاقة سلبية مؤذية تعمي البصيرة عن الوعي الصحيح الهادئ البعيد عن أسر غضب الانفعالات وانفلاتها المدمر.
وقد يكون للاستعداد النفسي والتركيبة الخاصة بالفرد الدورُ الكبير في التوصل أو الوصول إلى هذه المرحلة من القدرة على تحرير الطاقة العقلية من كل الضغوطات والانفعالات الهدامة بإزالة الألم وإزاحته بالانعتاق والتحرر منه. التحرر من كل الروابط والقيود الثقيلة التي تربطنا بالوهم بكل أشكاله وانفعالات علاقاته الوقتية الزائلة، هو ما أسميه تحرير العقل وإراحته بتحريره التام، وبإيجاد مساحة فراغ تمنحه سكينة الحرية والرضا والسلام، هذه الحرية الجميلة الآتية من الداخل والمنفلتة من كل ما حولها من حصار الانفعالات الغضوبة المختلفة هي الأهم والأثمن والأغلى، لأنها تحرر الإنسان من داخله لا من خارجه، لأنّ من السهل التحرر من القيود الخارجية البعيدة، لكن ليس من السهل التحرر منها حين تكون قريبة جداً وتخص حياة الفرد ذاته ومحيطه، حينئذ يصعب التحرر والتخلي عنها إلا عن طريق تحرير العقل من ضواغطها والانفلات من روابطها بإيجاد حالة من الفراغ والعزل لها حتى يحل الهدوء والرضا والمسامحة والقبول المتسامي فوق انفعالاتها، وتصبح المحبة والسكينة والسلام هي التي تقود دفة حياة المرء وسلامته العقلية والنفسية.هذه الحرية لا تأتي إلا من الداخل ولا يمكن استيرادها أو منحها أو تقليدها أو استعارتها من الغير، فلا أحد يستطيع أن يمنحك إياها إلا ذاتك، وهي قدرة ونعمة لا يصل إليها إلا من تمرد من طفولته واستطاع أن يتخلص من نظام التبعية والعبودية ورهن الذات لدى جمعية الانتماء إلى القطيع، فالتفرد هو الخطوة الأولى في المشوار الذي سيقطف في نهايته حرية العقل الذي يتعالى ويتسامى فوق جميع أشكال الانفعالات السلبية العنيفة وردود أفعالها الضارة بصحة العقل والنفس والجسد التي تحتاج إلى حبوب المهدئات والمسكنات بأنواعها.تحرير العقل هو إفلاته من جميع هجمات الضغوط النفسية الواردة من المحيط الحياتي المضطرب والهائج بمختلف أنواع الصراعات والانتماءات إلى أوهام أفكار وأيدلوجيات ومعتقدات زائلة، تطفو على السطح فترة تدمر فيها المعتقدين والمؤمنين بإخلاص بها، ومن ثمة تموت بموت أصحابها، فأين الحقيقة منها أو الجوهر الذي يستدعي كل هذه الانفعالات وردود أفعالها العنيفة التي تحصد الأرواح والأعمار في دربها؟