أن أحب وأن أكون محبوباً، بهذه الجملة ينهي المبدع الكبير خورخي لويس بورخيس كتاب سيرته الذاتية، فبعد كل ما كتبه، وكل تجربته الحياتية الكبيرة يجد أن أهم ما في الحياة أن يكون محباً ومحبوباً في آن، فالسعادة في رأيه يمكن أن تحدث في أي لحظة، لكن لا يجب البحث عنها، والشهرة والفشل يبدوان غير مكشوف عنهما، السلام ومتعة الفكر والصداقة هو الواقع الذي يعيشه، لكن الطموح الزائد أن يكون المرء محباً ومحبوباً.

Ad

الغريب أن تكون نتاج حصيلة رحلة حياة كاتب كبير مثله هو الحلم بالحب، خاصة حينما تكون سيرة حياته مكللة بالنجاحات والأصدقاء والشهرة والمكاسب المعنوية والمادية، لكنها تبدو أنها لم تعرف الحب الحقيقي، أي العشق المتولد بين رجل وامرأة، ففي سيرته لم يأت على ذكر النساء في حياته، وكل ما ذكره عنهن هو جمل بسيطة كشفت عن زواجه الأول، وهو في سن الـ65 ولم يدم طويلاً، وتلاه زواج آخر أيضاً لم يعمر، وعدا ذلك لم يأت أي ذكر لأي حب أو نساء مررن في حياته، والغريب في الأمر هو علاقته بأمه وصداقته معها إلى آخر أيامها، فقد كانت علاقة محبة وعمل وصحبة جميلة ربما كانت السبب في الاستغناء عن أي صحبة غيرها.

وفي المقارنة بين نشأة أي كاتب عربي وبين نشأة كاتب مثل بورخيس، نجد أنه لا مجال للمقارنة بينهما، فهذا الرجل توافر له المناخ المناسب لتأسيس وخلق كاتب بوجه خاص، فقد نشأ في عائلة متعلمة ومثقفة، أباً عن جد، فوالده كان فيلسوفاً وكاتباً ومحامياً، وجده جنرال، وجده الآخر كولونيل، وأصوله تنحدر من الإنكليزية والإسبانية إلى جانب إتقانه للغة الفرنسية مما منحه فرصة عظيمة لقراءة روائع الآداب العالمية بلغتها الأم، كما حظي بالتعلم في أرقى المدارس والجامعات، وعاش في وسط مثقف بثقافة نخبوية رهيفة عالية، وبالتنقل والسفر إلى أوروبا منذ طفولته وحتى شبابه، مما أثر في انفتاح تفكيره وتنوع ذائقته الفنية وتعددها، كما حباه الله بوجود أصدقاء درب، أدباء مثله، إلى جانب تلك الأم الصديقة المتفهمة والمتسامحة التي كانت سكرتيرة حقيقية حفزت بصمت وفاعلية عمله الأدبي كما ذكر في سيرته، ومع كل هذا المناخ الأسطوري الذي توافر بشكل غير عادي لميلاد كاتب، لم تأت كتاباته الأولى وليدة نفسها أو جاءت بالجديد الذي لم يأت به أحد، فقد كانت كتاباته الأولية تقليداً لكتابات من سبقه، حتى إنه تخلى عنها بعد ذلك، وجاء نضجه بعد مرور وقت طويل وبعد تجارب كتابية عديدة، واشتراكه في كتابة قصص بوليسية مع بيوي وصديق ثالث، كانت هذه الكتابات المشتركة هي بدايات النجاحات الكبيرة، التي هي برأيي تشبه ما كتبه الأخوان الرحباني من أغان ومسرحيات لا يمكن معرفة شخصية وروح كتابة كل منهما على حدة، وهو ما قال عنه بورخيس: "ماذا أفعل لكي أكتب بالتعاون مع آخر؟ أعتقد أن هذا يتطلب الإنكار التام للذات والتخلي عن الكبرياء، وربما الأدب، يجب على المتعاونين أن ينسوا أنفسهم في أداء العمل فقط".

والسؤال هنا أنه بالرغم من توافر كل المعطيات التي من شأنها أن تولد الكاتب من لحظة كتابته الأولى، فإنها لم تولده إلا بعد كثير من التجارب حتى وصل إلى مرحلة النضج المتأخر، فهل هذا يعني أن الموهبة العبقرية مثل التي تمتع بها رامبو وغيره من الذين لم يتوافر لهم المناخ الخاص بولادة المبدع والذين جاؤوا بالجديد والمذهل منذ كتاباتهم الأولى، فهل هذا يعني أن الموهبة الفذة لا تحتاج إلى كل تلك الرعاية الخاصة لنموها وتفجرها، وأنها قادرة على أن تكون منذ ميلادها الأول مكتملة وذات روح مختلفة عما هو حولها؟

أظن أن المعجزة تتم لو توافر لها مناخها ومعطيات الإبداع الخاص بها، فهنا ستولد المعجزة التي ولدها إبداع حقيقي لا يمثل إلا ذاته، وتم حضنها وتربيتها في مناخ ومعطيات مناسبة لنموها وتطويرها.

وهو ما اعترف به بورخيس إذ قال إن "القصة أقرب إلى إمكاناتي، وفقط بعد سلسلة طويلة من التجارب السردية الخجلة، جلست لكتابة قصة حقيقية".

ومن خلاصة كتابته هذه الجملة: "أعتقد أن الكتابة الجيدة يجب أن تكون فطنة".