ما قل ودل: القاضي والد الشهيد الذي برأ المتهمين بقتل الشهداء

نشر في 09-09-2012
آخر تحديث 09-09-2012 | 00:01
No Image Caption
 المستشار شفيق إمام طالعتنا الصحف المصرية يوم الجمعة الفائت بحكم أصدرته محكمة جنايات بنها، وهي عاصمة محافظة القليوبية إحدى محافظات الوجه البحري بمصر، والذي أصدرته الدائرة المشكلة برئاسة المستشار رضا البنداري رئيس المحكمة وعضوية المستشارين هشام الشريف وفوزي أبو زيد، المستشارين ببراءة الضباط والجنود المتهمين بقتل 27 وإصابة 40 آخرين في المظاهرات التي جرت لاقتحام أقسام الشرطة.

ولم يكن هذا الحكم هو الحكم الوحيد الذي أصدرته المحاكم المصرية وكسرت فيه حاجز الكراهية ضد ضباط وجنود الشرطة الذين اتهموا بقتل المتظاهرين في أحداث ثورة 25 يناير، ولكن لعله الحكم الوحيد الذي أصدره أحد قضاة مصر، الذي استشهد ابناً له في هذه الثورة.

رد القاضي أو تنحيه

ويبدو أن أحداً من المتهمين أو محاميهم لم يكن يعلم أن للمستشار رضا البنداري، رئيس المحكمة التي سوف تصدر الحكم، ابناً من شهداء الثورة، وإلا لطلب أحدهم من القاضي التنحي عن نظر الدعوى، لأن مشاعر الغضب التي تملأ صدره وقلبه على ابنه الشهيد، لن يؤمن معها صدور حكم بإعدامهم جميعاً، أو المحامون لطلب رد رئيس المحكمة، وهو أمر كان سوف يستجيب له القاضي دون تردد، لأن واقعة استشهاد ابنه واقعة صحيحة تؤثر حتماً في نفسية القاضي وهو يصدر حكمه، بما يخل بحسن سير العدالة.

نصف الناس أعداء القاضي إن عدل

لذلك فقد حبس المتهمون وعائلاتهم الذين حضروا جلسة النطق بالحكم أنفاسهم، بل أصابهم الوجوم والهلع، عندما استهل رئيس المحكمة هذه الجلسة بالترحم على أرواح شهداء الثورة، وأن نجله من بينهم، وقدم عزاءه لأهالي الشهداء الذين حضروا جلسة النطق بالحكم، وعزى نفسه قبل أن ينطق بالحكم الصادر ببراءة المتهمين.

وبقدر غبطة أهالي الشهداء عندما قال رئيس المحكمة إن ابنه كان من شهداء الثورة، فإنهم لم يرحموا القاضي عندما نطق بالحكم ببراءة المتهمين، بل رموا المحكمة بأبشع الاتهامات، وذلك لأن نصف الناس أعداء القاضي وإن عدل. إلا أن هذا الحكم تداعت معه لدي المعاني التالية:

لا يقضي القاضي وهو غضبان

حديث صحيح للرسول عليه الصلاة والسلام، يرسي ويرسخ مبدأً وأصلاً من أصول المحاكمة العادلة المنصفة، لم تصل إليه البشرية إلا بعد قرون طويلة، ذاقت فيه صنوفاً من ظلم المحاكمات الجائرة، التي نصبت فيها أعواد المشانق واستلت فيها السيوف لتقطع الرقاب، واستخدم فيها حرق الإنسان حياً أو إزهاق روحه بأنواع من السموم تقتل في الحال أو بعد فترة وجيزة يتلوى فيها من الألم من قضي بإعدامهم، أو بأنواع من أدوات التعذيب كالخازوق والمنجنيق وغيرها.

القاضي الطبيعي

ولم تكن فكرة القاضي الطبيعي وهي ضمانة جوهرية من ضمانات المحاكمة العادلة هي السائدة أو المهيمنة على هذه المحاكمات، ولم يكن هناك ما يمنع من أن يضم تشكيل المحكمة أفراداً أبدوا رأيهم مسبقاً بإدانة المتهم، أو استنكروا الفعل الذي اتهم بارتكابه، بل كانوا أول من يقع عليهم الاختيار، لأن الأحكام كانت تصدر قبل المحاكمة.

وهو ما جسدته العبارات القوية التي نطقت بها الملكة إنطوانيت أمام محاكم الثورة الفرنسية، عندما سألتها المحكمة: ما اسمك، فأجابت: كان اسمي ماري إنطوانيت، لأنها كانت تعرف أنها في عداد الأموات، وأن الحكم قد صدر بإعدامها قبل أن تبدأ المحاكمة، وأن علانية هذه المحاكمة لم يكن الهدف منه سوى أن يتشفى الجمهور الحاضر المحاكمة والذي يطالب بإعدام المتهمين، وأن يشفي هذا الجمهور غليله، وقد كانت الكراهية تزكم الأنوف في هذه المحاكمات.

"لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا"

يقول سبحانه وتعالى في محكم آياته "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى".

وهي آية كريمة وضعت الأساس القويم للقاضي عندما يفصل في ما يعرض عليه من قضايا وما يطرح عليه من منازعات، فعلى القاضي أن يجرد نفسه من مشاعر الكراهية وأن يطهر صدره من الأحقاد، يقول المولى عز وجل "وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ".

افتراض البراءة في الإنسان

يقول الرسول عليه الصلاة والسلام "ادرؤوا الحدود بالشبهات، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة".

وقد تفرع عن هذا الحديث، قاعدة أصبحت جزءاً من الضمير الإنساني، وهي افتراض البراءة في الإنسان، جسدتها المادة (11) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والفقرة الثانية من المادة (14) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية". كما جسدها دستور الكويت في ما نص عليه في المادة (34) من أن "المتهم بريء حتى تثبت إدانته" في محاكمة قانونية، تؤمن له فيها كل الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع.

وقد قضت المحكمة الدستورية بأن افتراض البراءة المنصوص عليه في المادة (34) من الدستور إنما يؤسس على الفطرة، وأنه لا يجوز نقض هذه القرينة إلا بحكم قضائي جازم يصدر في ضوء الأدلة المقدمة والمثبتة للجريمة المنسوبة إليه في كل ركن من أركانها".

تحية لهذا القاضي الجليل

الذي ملك نفسه عند الغضب وعمل بقول المولى عز وجل "وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ".

وفي قوله تعالى للنبي- صلى الله عليه وسلم: "يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى".

ولقد أكد القاضي رضا البنداري بهذا الحكم أن العدل هو الغاية الأسمى والأجل، غاية الإنسان وغاية المجتمع، وأن خير ضمانات القاضي هي تلك التي يستمدها من قرارة نفسه وخير حصن يلجأ إليه هو ضميره.

back to top