حكاية من حاراتنا
![ناصر الظفيري](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1497859964459581700/1497859964000/1280x960.jpg)
أما الطريقة لبدء معركة مع الذي يتجرأ على دخول حيّنا، حتى وإن كان زائرا، دون أدنى خوف أو مبالاة لعصابتنا وهو ما يعتبر استهزاء بقوتنا فتتمثل، هذه الطريقة، في دفع أحد الصبية صغار السن باتجاه هذا القادم الجديد فيتحرش به حتى يضطر أن ينهره أو يحاول التخلص منه، وحين لا يجد فكاكا منه يضطر لأن يضربه. لحظتها ينتهي دور الطفل المحرّض ويبدأ دور الشباب لتبدأ معركة مع الشاب أولا، ثم معركة بين حارتين، وفي معظم الأحيان يتدخل الكبار في الموضوع ويشتركون في معركة لا تنتهي بدأها صبي حرّضه شباب، وانتهت برجال يحكمهم عقل ووعي أو هكذا يفترض بهم. كنت أعتقد أن تلك الأيام الصبيانية انتهت وولت دون رجعة، ونحن نتعلم ونخرج من دائرة العصبة القبلية والمناطقية، ولم يبق منها سوى ذكرياتها وأيامها التي نستخدمها في أشعارنا وكتاباتنا القصصية والروائية. وربما كان صلاح دبشة أكثر المهمومين بتفاصيل تلك الأيام ودقائقها، وأحسب أنني مثله في القصة والرواية، حيث نطلق هذه النوستالجيا ليست رغبة فيها أو شغفا في عودتها، لكنها جزء من تاريخنا الذي لا يخلو من مرارة، الى جانب كثير من معان طيبة لا يخدشها هذا الفعل السلبي ولا ينتقص منها. تداخلت الحارات وألغيت القرى ونضج شبابها وتنوعت مشارب ثقافاتهم ومجالات إبداعهم واختلطوا بالمدنية وتعلموا منها فتأثروا وأثروا بها، وأصبح الوطن أكبر من حارة. ولكن حدث خطأ لم يكن في الحسبان.الصورة تأتي مقلوبة وبطريقة لا يمكن لخيال شاعر كصلاح دبشة أو روائي مثلي أن يتخيلها. الحكاية التي كانت تبدأ بصبي يتحرش بشاب عابر سبيل ليخلق معركة تشعل حارتين تطورت إلى النقيض تماما. فالرجل الذي يمثله ذلك الصبي هو شخصية عامة كان يقيم مهرجانا خطابيا، ويدعو الناس لبرنامج انتخابي فتؤمن به الناس وتمنحه أصواتها، ويمثل شريحة من المثقفين هم نحن بعد أن غادرنا عصاباتنا وشجاراتنا الغبية والتافهة وله مريدون ومديرو حملات انتخابية، وفي الصفوف الأولى لمحاضراته يجلس شيوخ دين ورجال هم رجالات حاراتنا وعقلاؤها. الشخصية المرموقة تجاوزت بأفعالها ما يمكن أن يفعله الصبي الذي دفعناه للتحرش بشاب عابر سبيل، ففعل ما لا يمكن أن نتخيله، لكنها على أي حالة نسخة بدائية وساذجة وغبية، مما كنا نمارسه في تلك الأيام، وان تغير أعمار أبطالها ولم تتغير عقولهم. المشهد الآن ليس الفعلة بحد ذاتها بل المعركة التي نتجت عنها. ربما سيدخل تغير طفيف على حكاية حارتنا، كأن نترك الصبي الذي دفعنا به للتحرش بالشاب يواجه مصيره وحيدا. أقول ربما. ما سنقوم به الآن هو توزيع الأدوار السابقة لحكايتنا على أصحابها اليوم، ونقول لهم: كنا نظن مخطئين أنكم نضجتم!