المستشرقون أول من قدموا رصداً دقيقاً لحركة «الإخوان» في الجزيرة العربية! (6 - 6 الأخيرة)

نشر في 07-12-2012 | 00:01
آخر تحديث 07-12-2012 | 00:01
«عاشق البادية الإنكليزي... المستشرق البروفيسور بروس إنغام»
تعرف على «العربية» مصادفة في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، لم تكن من بين اهتماماته الأولى، لم يعرها اهتماماً في بادئ الأمر، كان تركيزه منصباً على ما ورثه من والديه المغرمين بسحر الشرق وفنونه وثقافاته، فقد كان والده ممثلا انكليزيا يعشق القراءة والمطالعة والسفر إلى الهند، لذا هام عشقا في ثقافات الشرق القادمة من الهند والصين وبلاد فارس وباكستان. وكانت أمه مهتمة بالتعرف على حضارات الشرق... لذا ورث الفتى بروس حب الشرق ولغاته وأساطيره.

غير أنه فجأه، وبينما كانت تحيط به الكثير من الثقافات المبهرة الثرية في الصين والهند وبلاد فارس، وبينما هو يعيش في «قلب» الحضارة حيث الطبيعة السخية الخضراء في أحضان مدينة لندن وريفها الذي يغلفه الغمام ليل نهار، أطل ببصره على تلك الحروف القادمة من صحراء العرب القاحلة التي شكلت بالنسبة اليه كلمات غريبة لمحها في دفاتر بعض زملائه من الإيرانيين والباكستانيين، تلك الحروف التي كانت تبدو في عينيه كما لو كانت طلاسم رسمتها أيد ساحرة بارعة في فنون السحر، لكنها لفتت انتباهه، فأحب أن يتعلمها وغامر بأن يتعرف على مصدرها ومخارجها وأصولها، وكانت البداية!

لم يكن البروفيسور الإنكليزي بروس إنغام، يدري أن مغامرته الأولى شاباً ستحوله أسيراً، بل بمعنى أدق، هائماً يعيش حالة من الانغماس الكامل في عشق بادية وصحراء ولغة عربية وتفاصيل حياة لم يكن يتوقع يوما من الأيام أن الأقدار ستقوده إلى هذا المصير... ومازال البروفيسور إنغام، أو أبوحسين الظفيري- كما يحب أن يكنى- يبحث ويتدبر من أجل فك طلاسم سر هذا العشق الذي سيطر على كيانه.

لا أنكر أن هناك موظفين حكوميين كتبوا في الاستشراق لكن كتاباتهم لم تكن ذات طابع سياسي

غزوات «الإخوان»

ولأن قضية الاستشراق من القضايا التي طالما أثارت جدلاً واسعاً ونقاشات حادة على المستويات المختلفة السياسة والثقافية والتاريخية في الداخل والخارج، كان لزاما عليّ استكمال حديث الاستشراق وشجونه مع الحاج حسين الظفيري أو بالأحرى البروفيسور الإنكليزي بروس إنغام... وأكملت معه الحوار والتساؤلات البحثية المهمة التي تخص تلك القضية:

• قلتم إن حركة الاستشراق حركتها في الأساس المغامرة وحب الشهرة، هل هذا معناه أن جميع المستشرقين الذين وفدوا وجابوا أرجاء الجزيرة العربية والصحاري كانوا رحالة مدفوعين بحب المغامرة والرغبة في التعرف على عوالم جديدة؟

لا، لن ننكر أن هناك موظفين حكوميين، طبيعة وظيفتهم سياسية، وكتبوا في الاستشراق، ولكن كتاباتهم لم تكن ذات طابع سياسي من أمثال أولئك: "جون غلوب الشهير بغلوب باشا  John Glubb" (1986-1897)  فقد كان ضابطاً في سلاح الجو البريطاني، خدم في عشرينيات القرن المنصرم في الصحراء الجنوبية للعراق وفي المنطقة الحدودية السعودية- العراقية- الكويتية زمن غزوات "الإخوان". وألف كتاباً متميزاً بعنوان "حرب في الصحراء"- الذي ترجمه أخي عطية أخيراً- فقد دوّن به سنوات من الغليان وعدم الاستقرار في حياة بدو شمال الجزيرة العربية، ووثق أحداث "الإخوان" ورصد تحركاتهم، فكان شاهد عيان على أحداث تلك المرحلة من تاريخ الجزيرة العربية. ويعد كتاب "حرب في الصحراء" من أوثق وأدق المراجع عن حركة "الإخوان" في الجزيرة العربية.

عشق الكويت

وأيضا العقيد "ديكسون Dickson" (1959-1881) كان المعتمد السياسي في الكويت وكانت وظيفته سياسية إلا أن ما كتبه كان يتعلق بجوانب من حياة البدو: أنواع إبلهم، وأكلهم، وملابسهم، وعادات الزواج، والأدوات التي يستخدمونها كبيت الشعر، والهودج... إلخ.

ولكن ما كتبه كان نوعاً من الهواية الشخصية، فأمضي أكثر من 30 عاماً هناك، وكان مهتماً بكل جوانب حياة البدو، فكتب عن أنواع الإبل، والأكل، والملابس، والعادات والتقاليد البدوية مثل الزواج، والحكايات، والفولكلور البدوي، وعن الأدوات التي يستخدمها البدو في تنقلهم، مثل الهودج، والرشاْ، وقِرب الماء. وكانت زوجته تقوم برسم تلك الأشياء، وبهذه المناسبة أود أن أشير إلى أن زوجة العقيد ديكسون قد التصقت بالجزيرة العربية وفضلتها على أوروبا بمزارعها وجوها الماطر ولهوها، لقد أمضت جُل  سني حياتها- بعد وفاة زوجها- في الكويت ولم ترغب بمغادرتها، وقد بلغت من العمر عتياً- تجاوزت التسعين عاماً- واضطرت إلى مغادرتها اضطراراً لا اختيارا بعد غزو صدام للكويت.

الشيخ الرويلي

ولا أعتقد أن هناك أهدافاً سياسية للمستشرقين كباحثين علميين، وأذكر لك مثالاً آخر هو المستشرق "موسيل Alois Musil" (1944-1868)، وهو بروفيسور الدراسات الشرقية بجامعة براغ- تشيكوسلوفاكيا: وهو باحث تشيكي كان مبعوثا من معهد الاستشراق التشيكي، ولم يمثل مصالح دولة استعمارية. ونشر أبحاثا وكتبا علمية رصينة مثل كتاب "شمال نجد" الذي يحتوي على دراسة مسحية قام بها المؤلف نفسه لشمال نجد وصف فيه الأماكن وتضاريسها وقارنها بما ذكر بمعجم البلدان لياقوت الحموي، وكذلك كتابه عن  قبيلة "الرولة" في شمال الجزيرة العربية بعنوان "أخلاق الرولة وعاداتهم" لقد دون به الموروث الشعبي للبدو بصفة عامة وقبيلة الرولة بشكل خاص مثل: الأشعار، والألغاز، والغزوات، والأدوات، والإبل، والخيل، والعادات والتقاليد، ولقي تقديراً واحتراماً من قبيلة الرولة أنفسهم حتى أطلقوا عليه لقب الشيخ "موسى الرويلي"، وألف شعراؤهم الشعر النبطي في مدحه. وكذلك ألف كتاب "شمال الحجاز تطرق فيه إلى الآثار المتعلقة بالحجاز التي تعود إلى ما قبل الميلاد.

علّامة الجزيرة وأفواه الرواة

• يعد الباحث البروفيسور موسيل الذي تطرقت إلى ذكر نتاجه التاريخي والجغرافي من أكثر المستشرقين دقة في البحث، وقد أشاد برصانة كتاباته علاّمة الجزيرة المرحوم حمد الجاسر، ولكن مستشرقا آخر هو لوريمر تميز بغزارة الإنتاج وألف موسوعة ضخمة عن أحوال الخليج والجزيرة العربية‏ في بدايات القرن العشرين، ماذا تعرف عنه؟

- ألف "لوريمر" (J. G. Lorimer (1914-1875 موسوعة ضخمة عن أحوال الخليج والجزيرة العربية سماها دليل الخليج Gazetteer of the Persian Gulf, Oman and Central Arabia  تتألف مما يقارب ستة آلاف صفحة موزعة على ست مجلّدات. وهي في قسمين: القسم التاريخي، وهو الأكبر ويتكون من أربعة مجلّدات، والقسم الجغرافي والإحصائي ويقع في مجلّدين. واللافت للنظر أن هذه الموسوعة ظلّت حكراً للاستعمال الحكومي الرسمي إلى سنة 1970، حين سمحت الحكومة البريطانية بنشرها.

وقد لا يعرف الكثيرون أن لوريمر لم يكن رحالة أو أكاديمياً؛ وإنما هو موظف إنكليزي من حكومة الهند البريطانية، أقام في البصرة ولم يغادرها، وكل ما دوّنه من معلومات استقاها من أهل الخليج والجزيرة العربية الذين يفدون إلى البصرة، وكان يدفع الأموال للحصول على المعلومات، وكلف أيضا أناساً آخرين ليجلبوا له المعلومات، وحظي بدعم مالي من الحكومة البريطانية، وعندما يحصل على المعلومات يقوم بالتحقق من صحتها من أكثر من مصدر، لقد قام بجمع المعلومات من أفواه الرواة دون أن يرتحل ويخوض غمار التجربة بنفسه، وكرس جل وقته في متابعة أدق تفاصيل المعلومات، ودون شك أنه قد أفاد أيضاً مما كتبه المستشرقون الآخرون.

أدوار نسائية

• من المعروف أن الرحالة المشهورين هم من الرجال، هل هناك نساء غربيات قمن بدور المستشرقين أو الرحالة؟

- نعم، وأذكر من أشهر أولئك المستشرقات ثلاث رائدات هن: الليدي آن بلونت Lady Anne Blunt (1917-1837) وكانت رحالة أرستقراطية ولها اهتمام باقتناء الخيول العربية وتربيتها، وقامت برحلة من الشام لزيارة حائل لشراء الخيول، إذ كانت الطبقة الارستقراطية البريطانية في القرن التاسع عشر تهتم بتربية الخيول، زارت إمارة آل رشيد عام 1878، وهي أول امرأة بريطانية تقوم بهذه الرحلة (بنت حمولة تزور ابن حمولة) واشتهر زوجها بتعصبه للعرب.

وغيرترود بيل Gertrude Bell (1926-1868) والتي قامت برحلة على ظهور الإبل عام 1913 من دمشق إلى حائل استغرقت حوالي ثلاثة أشهر، ولم تكن رحالة فقط بل لعبت دوراً سياسياً مؤثراً وتولت وظائف سياسية أثناء احتلال بريطانيا للعراق وكانت مستشارة الملك فيصل ملك العراق لشؤون القبائل وكان يطلق عليها ملكة العراق غير المتوجة، وقامت بتأسيس المتحف الوطني العراقي.

وفريا ستارك Freya Stark (1993-1893). وهي صحافية ومؤرخة قامت برحلات منذ عام 1927 إلى البلدان العربية المحتلفة: لبنان، وسورية والعراق والكويت وحضرموت، ودونت رحلاتها ومشاهداتها بكتب عدة.

فنون الجنس

• هناك بعض المآخذ على الرسامين التشكيليين في الاستشراق الفني حيث أن لوحاتهم الفنية فيها تشويه للشرق العربي، مارأيك بتلك الأعمال؟

الاستشراق الفني التشكيلي يمثل جانبا آخر من جوانب الاستشراق، إذ قام المستشرقون الفنانون بالرسم التسجيلي والوثائقي وأظهروا من خلاله جماليات الفنون الشرقية. وأظهروا مهارة في صناعة اللوحة والصورة البصرية التشكيلية الناطقة بلغة اللون والفرشاة. وتجدر الإشارة إلى أن العرب مشهورون بالأدب والشعر بشكل خاص حتى قيل إن "الشعر ديوان العرب"؛ لكنهم غير مشهورين في الفن التشكيلي أو الموسيقى.

من الفنانين الاستشراقيين ديفيد روبرتس الذي قام  بجولة طويلة في مصر- واستقبله محمد علي باشا في قصره بالإسكندرية عام 1839- وبلاد النوبة، وسيناء، وفلسطين، والأردن، ولبنان، حيث عمل مجموعة من اللوحات في تلك الفترة. فصور الفنان روبرتس مدينة القاهرة كما لم يصورها أحد قبله، صورها كمن عاش فيها عشرات السنين وكانت لوحاتة تصوير رائع للقاهرة ومساجدها ومآذنها وشوارعها.

وهذا لا ينفي أن هناك من المستشرقين الفنانين الذين ركزوا على جوانب ليست أساسية في الشرق في لوحاتهم على موضوع الحريم، والجواري، والعري في حمام النساء التركي، والتركيز على الشهوانية أو الشبق الجنسي بعيداً عن موضوع الحب والعلاقة بين الذكر والأنثى. وغالبية الذين رسموا تلك اللوحات هم من الفنانين المغمورين، وبعضهم لم يزر البلاد العربية بل رسم لوحات من خياله طلباً للشهرة. وكان للمفكر الفلسطيني- الأميركي إدوارد سعيد موقف ناقد حاد من ذلك في كتابه الرصين "الاستشراق".

back to top