حكاية «الرجل الفيل» تاريخية، وحدثت لإنسان حقيقي عاش في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، اسمه «جوزيف ميريك» 1862 - 1890، لكن هذه الحقيقة وضعت عام 1979 في عمل مسرحي منحها كل عناصر الفانتازيا. العمل كتبه برنارد بوميرانس، ثم سرعان ما تناولت السينما هذا العمل ونشرته للعالم عام 1980.

Ad

كان ميريك طفلاً طبيعياً من أبوين طبيعيين، باستثناء عرج بسيط لدى الأم. لكن تشويها عجيبا بدأ يدب في طبيعة بشرته وعظامه منذ بدأ سن الخامسة. أصبحت استدارة رأسه عظيمة الكبر (3 أقدام) بنتوءين ضخمين من الخلف، وضخامة الفكين منعاه من النطق الواضح، وبالرغم من سلامة يده اليسرى إلا أن اليمنى ذات شكل شديد الغرابة وتنتهي برسغ باستدارة 12 إنشاً، وكذلك شأن الساقين والحوض.

وضع ميريك في إصلاحية الأحداث وهو في سن السابعة عشرة، لكنه هرب منها بعد سنوات أربع ليلتحق بمهرج يعرضه أضحوكة للناس، إلا انه اكُتشف في لندن من قبل الدكتور «تريفيز»، الذي أدخله مستشفى لندن 1986، وفيها أصبح واسع السمعة وموضع رعاية من الجميع مؤسسات وأفراداً، حتى موته المبكر وهو نائم.

إن كثيرين منا رأوا الفيلم الذي قام بالدور الرئيسي فيه «جون هيرت»، وتعرفوا على الذات الداخلية الفطنة المرهفة الواعية لـ»ميريك»، تعرفوا على رغبته الفياضة في أن يحب، وأن يعانق الجمال والحياة كإنسان سوى لا كاستثناء، وكيف إنه واجه حقيقة الحياة التي تنطوي على قسوة ضارية، حتى ان موته كان برأي كثيرين انتحاراً مقصوداً.

في أوبرا جديدة نسبياً، فاجأنا بها موسيقي فرنسي شاب يُدعى «لورنيهبيتيتجرارد»، نرى بصورة خاطفة كيف يموت ميريك انتحاراً في آخر لحظة منها، إذ يرمي برأسه الكبير الثقيل الى الخلف، وهو أمر محذور، فينحدر وراءه على الأرض الصلبة.

ولأن الأوبرا تتعامل مع المشاعر والرغائب أولاً، فإن ميريك وحكايته يبدوان ملائمين تماماً، إن الاصدار مرفق بنص العمل الشعري الذي وضعه بنجاح «أريك نون»، لكن الكتيب للأسف لم يقدم، ولو بصورة أولية، أي تعريف بالمؤلف ولا بتفاصيل عمله الأول هذا. ونحن نعرف المغنية الفرنسية ناتالي ستوتزمان «من طبقة (آلتو) الخفيضة جداً» التي قامت بدور «ميريك» أكثر مما نعرف المؤلف، إلا ان عمله هذا كفيل بتقديم قابليته وعالمه الداخلي بصورة وافية، فالطبيعة الموسيقية في الأوبرا محافظة على «المقامية» التي تعارفت عليها المراحل الموسيقية حتى القرن العشرين، أو مطلعه، حتى خرجت عليها مدرسة فيينا الثانية، بقيادة شوينبيرغ، ولذلك نملك أن نتابع خيوطاً لحنية على امتداد الفصول الأربعة، باستثناء الاستعانات بين حين وآخر، بأساليب مدرسة «المينمالزم» التي تُعنى بالتكرار المتواصل، وهي مدرسة ما بعد حداثية خرجت على المقامية التقليدية.

في الفصل الأول لا نتعرف على صوت ميريك، بل على هيئته الشائهة صامتة تحت إدارة «نورمان» صاحب الاستعراض التهريجي، وكأن المؤلف أراد لمشاعرنا المتعاطفة أن تقطع شوطاً للنمو والنضج.

في المشهد الثاني من الفصل الثاني يطل علينا صوت البطل الضحية وهو يتهدج بصعوبة: «أنا لست شحاذاً...»، لكن تسبق صوته افتتاحية «برليود» غاية في الرقة والنبل والتشكك ثم التفجر، وكأنها بكل ذلك تمثل كيان ووجدان ميريك. في المشهد الثالث نستمع لأربع دقائق لحناً ثنائياً رائعاً بين ميريك و»الكورس»، وفيه مناجاة لله بأن يشمل بعطفه ورحمته «عبده على سرير آلامه».

المؤلف الموسيقي، مع الشاعر، حافظ على واقعية وتاريخية ميريك، ولذلك تعبر الاحداث كما عرفناها في سياقها التاريخي: في الاستعراض، ثم في المستشفى، بعد ثم تعرّض ميريك لأضواء الاعلام بعد ان نشرت عنه «التايمز» خبراً استعطافياً، ثم موته فوق سريره، لكن الأوبرا لا تعنى بالحدث التاريخي لذاته ولذلك وضعت للبطل طبقة «آلتو» (وهي طبقة صوتية نسائية خفيضة) على درجة عالية من العتمة والعمق.