مرت قبل أيام ذكرى وفاة المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد 25/9/2003. ومن النادر أن يتكرم العالم ليهب لنا شخصاً رفيعاً من طراز إدوارد سعيد، لكن فلسطين تكرمت بهذا. ادوارد سعيد هو حقاً هبة فلسطين إلى العالم، وهو آخر المفكرين الموسوعيين في مجال الانسانيات، وسيظل فكره وعمله مثالاً حياً وخصباً، لماهية المثقف المنخرط في صلب العالم وقضاياه المحورية. لقد نقل سعيد حقل الدراسات النقدية منذ أطروحته عن جوزيف كونراد، إلى مستوى أكثر عمقاً وشمولاً. وأظهر الأبعاد الخفية، لقوى الهيمنة والسلطة. كما أن دراساته وأبحاثه وكتبه، خصوصاً "الاستشراق" و"الثقافة الإمبريالية" فتحت مجالاً واسعاً لحقل التأويل في مجال "الدراسات ما بعد الاستعمارية" وهو عمل اختراقي، ساهم في تصحيح الصورة عن العالم الثالث عند الانتلجينسيا الغربية، وفضحت أطروحة المركزية الغربية، هكذا ذهبت أيضاً أبحاث وكتابات من عاصره من مفكري العالم الثالث كإقبال أحمد وغياتري سبيفاك، وهومي بابا، بل ان صديقه الآخر تودوروف المتخصص في النقد الأدبي ونقد النقد اتجه في ما بعد إلى مساءلة صورة الآخر، في الثقافة الغربية. وكنت قد حضرت عندما كنت مقيماً في نيويورك، محاضرة لتودروف، تتحدث عن علاقة السرد والتاريخ والأمة.
عشت في نيويورك، قريباً من جامعة كولومبيا، وكانت غرفتي تطل على نافذة غرفة سكنها ذات يوم الشاعر الاسباني "غارسيا لوركا". كان محيط الجامعة الشهيرة، ميداناً خصباً للنشاطات الثقافية، والموسيقية والسينمائية. لم أكن طالباً لكنني حضرت الكثير من المحاضرات والعروض السينمائية، والموسيقية، وتعرفت على بعض الطلبة والأساتذة، الذين أصبحوا في ما بعد أصدقائي. وقد أعطيت دروساً خصوصية في الأدب العربي لبعض هؤلاء، بما في ذلك غياتري سبيفاك، هذه الأكاديمية التي نقلت أعمال جاك دريدا الأساسية إلى الإنكليزية. في محيط الجامعة هذا كنت المحُ ادوارد سعيد على الدوام وهو يصعد إلى مكتبه أو يغادر الجامعة، في ما بعد أهديتهُ مجموعتي "الصمت يأتي للاعتراف" ثم التقيته مراراً ولكن لقاءات عابرة، لكنني كنت أحرص على حضور النشاطات أو المحاضرات التي كان يشارك فيها، بما في ذلك النقاشات السياسية الساخنة. كان سعيد شخصية كارزمية، جذابة وكانت لغته الإنكليزية، حين يحاضر ذات بلاغة ساحرة غير مسبوقة. وحينما علمت بمرضه في 1991 حتى مغادرتي الولايات المتحدة لم يكن سعيد قد تغير كثيراً، بل على العكس كان أكثر نشاطاً وصلابة وإنتاجاً. وقد سمعته أكثر من مرة يردد لبعض الطلبة العرب الذين يأتون إلى الولايات المتحدة لدراسة الأدب العربي بأن هذا الأمر مضيعة للوقت فقد كان يرى بأن ميزة الدراسة في الولايات المتحدة هي في اختراق الدراسات الغربية وقراءة أميركا والغرب قراءة تسمح للعرب بتكوين فكرة أفضل وأكثر عمقاً لاستيعابه وفهمه.
توابل
في ذكرى إدوارد سعيد
03-10-2012