عادة ما يميلُ الناس إلى رؤية الشاعر قصيدةً تمشي على قدمين. لا يرغبون في رؤية الفاصل غير الظاهر بين الإنسان والشاعر الذي فيه. وهذه الرغبة هي التي تُحدث الالتباسَ بشأن علاقة الشعر والشاعر بالموقف الأخلاقي، وبالأخلاق جملة. إن الموقف النقدي الذي يقول إن "لا علاقة بين الشعر والأخلاق" موقف بالغ الغموض والارتباك، لأنه لا يلتفت إلى أن هناك سلوكاً أخلاقياً يصدر عن الإنسان، وهناك سلوكٌ أخلاقي يصدر عن النص الشعري. وقد تكون الهوةُ التي تفصل بينهما كبيرة تماماً. صحيح أن القارئ والإنسان فينا يطمع أن يرى وحدةً بيّنةً بين الشاعر ونصه، وبين سلوكهما الأخلاقي. ولكن هذا التوقَ المشروع لا يتحقق إلا عند شعراء قلة. نحن نتفق على شاعر مثل أبي العلاء، لكننا قد لا نتفق على شاعر مثل المتنبي. الأول يحقق توازنا مثالياً بين الشاعر (أو القصيدة) والإنسان، وبين سلوكهما الأخلاقي. والثاني حفنة تعارض بين هذه الأطراف: الإنسان، الشاعر، القصيدة، والسلوك الأخلاقي.
الذي ينتصر لأبي العلاء لا يستطيع أن يجرد الشعرَ من إنسانية الإنسان. من نبالة مهمته في رؤاه غير النفعية، غير السوقية. لأن الإنسانَ الذي يحتضنُ موهبةَ الشاعر ينقاد، في جملته، إلى تلك الرؤى فيتشذّب. والذي ينتصر لأبي الطيب إما أن يقول لك: غض طرفاً عن السلوك الرديء لقصيدته، وعن السلوك الرديء لشخصه. حينها ستتفتح لك القوى الجمالية الكامنة في لغته، أو يقول: إن توق المتنبي للإمارة هو توق شعري، تبدو الدناءة، والطمع، وتقلب المواقف مجرد وسائل دنيوية عابرة تحت ريح هذه الروح الشعرية العاصف. عادة ما نسمع صرخات احتجاج ضد ربط الشعر بالموقف الأخلاقي. صرخات تصدر إما عن رغبة (غير واعية) في توفير حد أدنى من الغموض في العلاقة بين هذه الأطراف، أو رغبة (واعية) في إطلاق سراح الانسان والقصيدة من أي شرط إنساني، وتعويمهما في تجريد إيهامي، يجعل صورة القصيدة التي تمشي على قدمين أمراً ممكناً. السلوك الرديء في الانسان رديء، صدر عن إنسان اعتيادي، أو إنسان شاعر. اللسان البذيء في كليهما يظل بذيئاً، حتى لو صيغ ببلاغة بارعة. الطعن غير المشروع، الذي يصدر عن شاعر بحق إنسان ما، اعتداء على حرمته وحريته يُعاقب عليه القانون. القصيدة النفعية التي تتوسل كل قدراتها من أجل تحقيق مكسب مادي أو معنوي، قصيدة دنيئة. الشاعر الذي يكذب على النفس، أو على القارئ، في ادعاءات باطلة لا صحة لها، شاعرٌ مُتدنٍّ. لابد من الاعتراف بالفاصل الذي يُبعد الإنسان عن الشاعر الذي فيه، من أجل أن نمنح أنفسنا حق الحكم الأخلاقي، أو حق التصرف إزاء النص الجيد للشاعر ذي السلوك الرديء. النص أقرأه في عزلة على الورق. صحيح أنني لا أورط النص بشوائب سلوك صاحبه، ولكنني أملك الحق في أن لا أقرب صاحبه هذا، وأحكم عليه بالرداءة كإنسان، وبملء الفم. تحلو لبعض الشعراء الحجة التالية: أحكم على النص، ولا تأخذه بجريرة سلوكي الشخصي. وهو رأي صائب، لو لم ينطوِ على معنى ضمني يقول: إذا تقبلت نصي الشعري فإنك بالضرورة ستبرر لسلوكي الشخصي كل شوائبه. هذه الحجة تجري مجرى الهفوات اللغوية لدى الشاعر: يحق له مالا يحق لسواه، فهو أيضاً يحق له ما لا يحق لسواه من الناس من رداءة الخلق، وهفوات السلوك. وكأن الناس لا تملك الحق في الحكم على رداءة سلوك الشاعر، وهذه الرداءة تنعكس على بياناته النثرية بشأن نفسه، وبشأن الآخر. على أن هذه التنويعات السابقة لا تُخفي اعتقادي الجازم بأن عورات الموقف الخلقي لدى الشاعر، (وهي تختلف عن مجافات العرف أو التقليد الموروث...)، لابد كامنة في نصه الشعري. ولا تحتاج لاكتشافها إلا إلى قارئ ذي بصيرة.
توابل
الرداءة الكامنة
24-05-2012