التقاعس الدولي تجاه سورية... مدخل لأصولية جديدة
في مقابلة أجرتها وكالة رويترز مع الطبيب الفرنسي الجراح "جاك بيريه" الذي شارك في علاج الجرحى المقاتلين في حلب والذي أمضى أسبوعين فيها يعمل سراً، أكد أن "المقاتلين الذين عالجهم نصفهم غير سوريين، بل منهم الفرنسيون"، ونقل عنهم "أنهم ليسوا مهتمين بسقوط الأسد، فحسب بل بإقامة دولة إسلامية".المجتمع السوري عبر تاريخه مجتمع وسطي ومتنوع يجنح إلى السلم، ولم يتعرض نسيجه الاجتماعي إلى أي شرخ أو أي تصدعات طائفية أو عرقية عرقلت عيشه المشترك رغم المحاولات الاستعمارية سابقاً لزعزعة تكوينه وتقسيمه إلى دويلات متعددة، ولكنها باءت بالفشل بسبب قوة النسيج وصلابته، ولكن ما عجز عنه المستعمر لاقى رواجاً وتبنياً لدى "حافظ الأسد"، فمنذ اغتصابه للسلطة عام 1970 عمل وبكل جهده، وبحس أمني عال، على إعادة تركيب النظام وهيكلته وفق المقاييس الطائفية، بحيث يصعب معها نجاح أي محاولة لتغيير النظام.
وإن كان لا بد من ذلك، فالثمن سيكون باهظا وفق ما نراه الآن خلال الثورة، إذ رغم شدتها وكثرة الانشقاقات عن النظام، فلا يزال مستمراً بمزيد من القتل والإبادة للشعب السوري، ناهيك عن اللعب بكل الأوراق القذرة لديه كالطائفية، والتي لاقت آذانا صاغية لدى بعض الأقليات، وبدت مساندة وداعمة له بكل ما يفعل. وهذه الدموية المفرطة للنظام السوري دفعت أبناء الثورة إلى حمل السلاح دفاعا عن الأرض والعرض؛ مما أجج عواطف وحمية الكثيرين من العرب والمسلمين ودفعهم إلى نصرة إخوانهم السوريين، والذين باتوا على أبواب الإبادة الشاملة. عندما يتخلى العالم عن نصرتك وأنت تتعرض لأبشع حرب إبادة عرفها التاريخ على يد نظام لم يؤتمن على شعبه، فلا يسعك إلا أن ترحب بمن جاء لنصرتك بماله ونفسه, كما الغريق الذي يتمسك بالقشة علّها تنقذه، والذين ينظرون ويتهمون الثورة بالأصولية أو يقلقون عليها من الأفغنة نذكرهم بأن ثورات البوسنة وكوسوفو وليبيا كانت أكثر بنادقها أصولية، وباتت اليوم أقرب إلى المدنية منها إلى الدينية، وذلك لعدم توافر الرعاية والحاضن معا خلافا للنموذجين الأفغاني والعراقي اللذين توافرت لهما الرعاية والحاضن إضافة إلى العامل الخارجي. والأرضية السورية لا تحتمل التطرف ولا خلفية غير مدنية لعامليّ التعدد والإرث الحضاري، ومن لا يقنعه أي تيرير فعليه الحضور في الميدان والعمل على "علمنة ولبررة الثورة" أو تأمين حل مناسب لضمان مدنيتها, وإلا فالكلمة لمن يحملون السلاح وباتوا هم "صنّاع الثورة" والباقي إما مساند أو "حكواتي".عسكرة الثورة لم تكن خياراً بل ضرورة فرضتها دموية النظام وتقاعس المجتمع الدولي عن أداء دوره الأممي والأخلاقي في حماية الشعب السوري تحت ذرائع واهية وغير منطقية، وهذا التهرب الدولي من مسؤولياته خشية الخسائر، سيجعله يدفع الثمن غاليا فيما بعد، وخاصة عندما تدخل سورية نفق الدولة الفاشلة، وتصبح مرتعا ومفرخة لكل الأصوليات؛ لأن الحاضن سيصبح أمرا واقعا لعدم توافر البديل، وعندها لن ينفع التدخل ولا الندم، وهذا ما لا يريد إدراكه المجتمع الدولي، وعندها ستصبح الأقليات بمهب الريح لأن إمارة التطرف لا تعرف الألوان.منطقة الشرق الأوسط منطقة المصالح الدولية, وأي اهتزاز لأمن المنطقة هو اهتزاز للاقتصاد العالمي وحلول "ما قبل الانهيار" قد لا تنفع، بل تأتي منتهية الصلاحية. إنذارات نوجهها وأجراس نقرعها علّها تلامس الصمم الدولي الذي تخلى عن إنسانيته، وحتى عن أمن شعبه بتعريضه لخطر الأصوليات، بل الأصولية الجديدة التي ستخرج من الركام السوري، وما أظنها إلاّ أشد قسوة على المجتمع الدولي من "القاعدة" و"طالبان"، فهل نعالج الأسباب أم سنظل نتعامل بالنتائج؟