رغم تكريس عناصر الأدبي/ الجمالي وشواهدهما في "طوق الحمامة"، إلّا أنه يمكن القول بكثير من الاطمئنان، إن هذا المؤلَّف يستند إلى ركيزة أبعد أثراً وأهمية، تتجلى في خطابه الثقافي في بعده المعرفي الإنساني، وفي آلية تقديم هذه المعرفة عبر ما توفر من أدوات البحث المنهجي والدرس العلمي.

Ad

ويمكن القول إن ابن حزم وهو بصدد بناء هذا العمل، مثله مثل أي مؤلِّف في مجال الإنسانيات، سوف يشتغل على محورين: الأول يتمثل في استيعاب الخطابات الثقافية المبثوثة في ما عرفه وخبره وقرّ في وعيه، وفي ما تلقاه من التحصيل أو التأثير أو التجربة. والمحور الثاني يتمثل في ما سوف يضيفه من خطاب خاص به، عادةً ما يأتي كقراءة وتقييم لزاوية ما في هذا الواقع الثقافي، وإعلان موقف منه.

وبالعودة إلى موضوع (الحب)، سوف يجد ابن حزم نفسه محاطاً بميراث اجتماعي وفلسفي وأدبي وشرعي ثري في هذا المجال، ناهيك عن تجربة العيش والحياة في البيئة الأندلسية بخلفياتها التاريخية والثقافية والعلمية. وهو من ناحية أخرى، وحين يستقرئ هذا الحشد من المعطيات، يستشعر قلقاً ما إزاء مساءلة هذا الواقع المعيش، ناهيك عن محاكمته ونقده. بل هو فوق ذلك يستشعر قلقاً أشد إزاء ما توفر حول هذا الموضوع من مؤلفات يغلب عليها الارتجال والانطباعية، ناهيك عن غياب المنهجية والافتقار إلى التنظير في معالجة الموضوع لدى من سبقه. ورغم ذلك فقد كان في توجه ابن حزم المنهجي المتمثل في (خطة) البحث، و(قول الحقيقة من غير تزيّد أو تفنّن)، والالتزام (بالتجارب الواقعية) و(التجريب)، ما يكشف عن آلية فكرية تسم المؤلف، وتحدد موقفه من واقعه الثقافي، والأسلوب الأمثل لمعالجة مكونات هذا الواقع.

فأول السمات الفكرية يتضح في التقاطع والتماهي مع العلوم الأخرى، إذ إن ظاهرة إنسانية واسعة وأصيلة مثل (الحب)، لا بد أن تقود الباحث فيها إلى حقول معرفية شتى، حسب ما يقتضيه الاستطراد وما يستدعيه استكمال شبكة المعلومات ذات الصلة. ومن هنا يمكن القول إن "طوق الحمامة" جاء متقاطعاً مع علوم إنسانية مهمة، ومتناصاً مع معارفها وقواعدها، ويأتي على رأسها علم النفس والفلسفة وعلم الشريعة. وحين نأتي إلى علم الشريعة وفقهها في سياق الحديث عن تقاطع "طوق الحمامة" مع العلوم الأخرى، فلعله من فضلة القول التأكيد على كون ابن حزم عالماً فقيهاً وإماماً، وهو بهذه الصفة وبما يملك من عدة وعلم شرعي، مسوق لا محالة إلى الاستناد والانطلاق من قاعدته الشرعية الفقهية والرجوع لها في ما يعنّ له من موضوعات الحياة وشؤونها. لذا فليس مستغرباً أن يرجع ابن حزم لأحكام الشريعة وحدودها في تضاعيف "طوق الحمامة"، رغم كونه كتاباً في الحب، بل انه يرى ضرورة التأكيد على رأي الشرع في مجال كهذا، وأهمية تقديم هذا الرأي على أي استطراد آخر.

وقد لا يخفى على القارئ ميل ابن حزم إلى القول (بجواز) انشغال القلب والوجدان بمشاعر الحب، كونها فطرة إنسانية مما فُطِرَ عليه العباد، ثم أيّد رأيه الشرعي بالاستشهاد بسيَر من الأئمة الراشدين والفقهاء الصالحين، وقبلها الاستشهاد بالقرآن الكريم والأحاديث والسنن النبوية وآراء الفقهاء.

وغنيّ عن البيان أن ما سبق عرضه عن تلامس رسالة ابن حزم وتقاطعها مع علم النفس والفلسفة وعلم الشريعة، لا يعني الاقتصار على هذه المؤثرات، فليس هذه العلوم هي نهاية الهمّ الثقافي وحصيلته ومقوّماته في عصر ابن حزم وزمنه، وإنما إلى جانب هذه المؤثرات تتلامح حركة التاريخ، وإحداثيات السياسة، وهما على جانب من الزخم وسرعة التغيّر عصرئذ (أواخر القرن التاسع وأوائل العاشر الميلادي)، وفي مكان مثل الأندلس، بكل مشاهده ومشكلاته الحضارية الزاخرة. ولا شك أن وجوه الثقافة العلمية والفنية والفكرية مما ظهرت آثارها في مؤلَّف ابن حزم، مما يصعب حصرها وتتبع ملامحها وسماتها في مقال مثل هذا، وذلك لغنى مادتها وتداخلها في سياقات مباحث أخرى يمكن الرجوع إليها في مظانّها.