اجتهدنا كثيراً في الحديث عن الخلل الذي أصاب مهرجاناتنا السينمائية، وأفضنا في الإشارة إلى مواطن العوار التي تجعل منها «مقاهي للنخبة» و{مصايف للصفوة»، وعلى رأسها نظرة الكثيرين من القيمين على تنظيم هذه المهرجانات بوصفها وسيلة للتربح والشهرة وتوطيد المصالح، فضلاً عن نظرة الاستعلاء التي تجعل الجمهور يأتي في ذيل اهتمام هؤلاء «المنتفعين» من وراء إقامة تلك المهرجانات!

Ad

كتبنا واستطردنا حتى جاءت ماريان خوري لتؤكد لنا أن ثمة صورة أخرى مختلفة يمكن أن نضع أيدينا عليها من خلال «بانوراما الفيلم الأوروبي»، التي تبنت الدعوة إلى تنظيمها ورعايتها وافتتحت دورتها الخامسة منذ أيام.

ماريان خوري لمن لا يعرف هي ابنة شقيقة المخرج الكبير يوسف شاهين، وهي مخرجة ومنتجة سينمائية لبنانية الأصل، تقيم وتمارس نشاطها السينمائي في مصر بحكم اقترابها وعملها مع «شاهين» وشركة أفلام مصر العالمية، إلى أن أنجزت أول فيلم وثائقي لها بعنوان «زمن لورا» (1999)، وأتبعته بفيلم «عاشقات السينما» (2002)، ووقفت وراء إنتاج كثير من التجارب التي أتاحت الفرصة لجيل عريض من المخرجين الشباب، كذلك استثمرت علاقاتها بهيئات عالمية وإدارات كثير من المهرجانات الدولية، لتقديم تجارب هؤلاء المخرجين الشباب والتعريف بهم!

من هنا كان تفكير ماريان في تنظيم «بانوراما الفيلم الأوروبي»، ومن عام إلى آخر واصلت بدأب وإصرار وتفان ليس لها مثيل دعم ورعاية هذه الاحتفالية السينمائية، التي تفوقت على فعاليات كثيرة يُطلقون عليها «مهرجانات سينمائية»، بينما تعاني مشاكل وأزمات وسقطات تلاحقها من دورة إلى أخرى من دون أن يبادر أحد من أصحابها، والمستفيدون من وجودها بتصويب مسارها أو وضع حد لفضائحها السنوية!

في احتفال بسيط افتتحت ماريان فعاليات الدورة الخامسة

(3 ـ 9 أكتوبر) بمشاركة ‏26‏ فيلماً ما بين روائي وتسجيلي‏ ‏و‏30‏ فيلم تحريك قصير، تمثل 22 دولة من بينها: فرنسا وألمانيا وهولندا والبوسنة، بالإضافة إلى الدولة المضيفة مصر، وبعكس المهرجانات السينمائية المصرية التي تتفنن في حشد كم من الأفلام دون الاهتمام بالكيف ومن دون رؤية أو «استراتيجية» واضحة، نجحت ماريان في استقطاب باقة من الأفلام، التي حصد بعضها جوائز في مهرجانات سينمائية كبرى، وحظيت بتقدير الجمهور والنقاد في كل مكان عُرضت فيه. لا ترجع أهمية «بانوراما الفيلم الأوروبي» إلى السوية الفنية أو الرؤية الفكرية التي تتمتع بها، بل إلى نجاحها في كسر هيمنة الفيلم الأميركي على صالات العرض السينمائي في مصر، والحد من تأثير السينما «الهوليوودية» على وعي المواطن البسيط، الذي تصور لفرط مطاردة الفيلم الأميركي له حتى غرفة نومه، أن العالم لا يعرف سوى السينما الأميركية والهندية والمصرية

بالطبع (!)، وجاءت «البانوراما» لتقدم له الوجه الآخر لسينما يجهلها... والإنسان عدو ما يجهل!

في الدورة الخامسة لـ «بانوراما الفيلم الأوروبي» فوجئ الجمهور المصري بفيلم الافتتاح البريطاني «نصيب الملائكة» للمخرج الكبير كين لوتش، وربما صُدم عندما علم أنه حاصل على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان «كان» في دورته الأخيرة، وتكررت الصدمة مع عرض الفيلم الإيطالي «قيصر لا بد أن يموت» إخراج الأخوين باولو وفيتوريو تافياني، ليس فقط لأنه حاصل على جائزة الدب الذهبي من مهرجان برلين السينمائي، بل لأنه كان يتصور أن الأفلام الأميركية فحسب هي التي تتربع على القمة، وتحصد الجوائز الرفيعة.

وتواصلت الصدمات مع توالي عروض كوكبة رائعة من نتاجات السينما الأوروبية، التي لا تجد لها متنفساً في صالات العرض المصرية، فكانت الفرصة مواتية للاطلاع على سينما مختلفة لها طابعها وإيقاعها وأسلوبها وهويتها وثقافتها، كفيلم «الكشف عن الجاسوس» (إنتاج إنكلترا، فرنسا، وألمانيا 2012)، والفيلم الهولندي «الأطفال الشجعان لا يبكون»، والفيلم الألماني الفرنسي - التركي المشترك «أطفال سراييفو»، الذي حصل على تنويه خاص من لجنة تحكيم قسم «نظرة ما» في مهرجان «كان» السينمائي، وفاز بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان سراييفو السينمائي، والفيلم الروسي «إيلينا» الحاصل على جائزة لجنة تحكيم قسم «نظرة ما» في مهرجان «كان» السينمائي والجائزة الكبرى لمهرجان «جنت» السينمائي الدولي... وغيرها من أفلام أعادت التوازن إلى الجمهور المصري، الذي تجاوب معها وأقبل بكثافة على متابعتها، وكأنه يرد على الموزعين المصريين الذين اتهموه مراراً بأنه لا يرضى إلا عن أفلام «شارع الهرم» و{حصل خير» و{اللمبي 8 جيجا» و{بابا» بديلاً، واختار أن يُلقن الجميع درساً قاسياً أكد من خلاله أكذوبة مقولة «الجمهور عاوز كده»، بينما أثبتت ماريان خوري أنها «امرأة بألف رجل».