نعيش في العالم العربي منذ أكثر من سبعين عاماً دوامة العنف الناتج عن الثورات والانقلابات التي تنتهي غالباً بإعدامات مباشرة، أو عقب محاكمات معظمها صورية ولا تتوافر فيها أبسط معايير العدالة والإنصاف لرموز الأنظمة السابقة الذين لا نبرؤهم جميعاً من جرائم كبيرة ضد شعوبهم، دوامة العنف هذه بالإضافة إلى الموروث الخشن في الثقافة العربية جعلتنا منطقة لا تشبع من سفك الدم والمجازر المتتالية، التي تتطلب أن نقف ونفكر في علاج لها، ووضع نهج جديد يعطي القدوة لوقف هذه الدوامة من العنف التي عافها العالم حتى في مناطق كانت مثالاً للاقتتال الدائم مثل وسط إفريقيا وجنوب شرق آسيا.

Ad

ليبيا الجديدة محطة عربية أخرى ستشهد قريباً محاكمة رموز نظامها الدكتاتوري السابق أبرزهما سيف الإسلام القذافي وعبدالله السنوسي، اللذان شاركا وفقاً لقرارات المحكمة الدولية لليبيا في اتخاذ قرارات نتج عنها جرائم فظيعة ضد الشعب الليبي يستحقان عليها أقسى العقوبات، ولكن ألا يستحق العالم العربي الجديد بربيعه الديمقراطي أن يقدم مكون منه تضحية كبيرة؟، ولكن مردودها على الأجيال المقبلة سيكون عظيماً عبر إعطاء المثال لتعطيل دوامة العنف والإعدامات في عالمنا العربي، بأن تقرر السلطة الديمقراطية الليبية المنتخبة قبل بدء محاكمة سيف الإسلام والسنوسي أن عقوبة الإعدام مستبعدة، وأن المحاكمة ستجري للتشهير بهما وبجرائمهما ليبقيا وأعوانهما عبرة في السجون لكل من يمتلك سلطة أو قراراً يستخدمه للتجاوز على أرواح البشر وأرزاقهم وحريتهم.

أعلم أن فعل القصاص والثأر جزء عميق ومغروز في فكر ومكونات الشخصية العربية، ولذلك فإن قرار استبعاد عقوبة الإعدام صعب على ليبيا ولن تتخذه بسهولة كما فعلت الأرجنتين وجنوب إفريقيا ودول أوروبا الشرقية (الشيوعية سابقاً)، وبلاشك فإن الشعب الليبي قد عانى كثيراً وفقد الكثير من الأرواح ومقدراته في الأربعين سنة الماضية وخلال ثورة 17 فبراير العظيمة، ولكن هذا الشعب لديه مقومات وموقع جغرافي يعطيه فرصة التميز وتشكيل النموذج للعرب ومكوناتهم الاجتماعية والعقائدية، رغم ما يعانيه نظامه المدني الديمقراطي الوليد من اختراقات له من تجمعات قبلية ودينية متشددة، ولكن الليبيين يسيرون بخطى متميزة نحو دولة مدنية، ويثبت ذلك نتيجة الانتخابات الليبية الأخيرة بخلاف وضع معظم الدول العربية التي شهدت تغييرات في الربيع العربي وتتجه إلى حكم ديني أصولي ربما يعصف بالدولة الديمقراطية المدنية ويحولها إلى نماذج أقرب إلى النظم الثيوقراطية.

الليبيون سيكونون أمام فرصة تاريخية ليكونوا النموذج لهذه المنطقة للخروج من نهج العنف المتبادل الذي يمثل تنفيذ حكم الإعدام أحد أهم أوجهه، ورغم أنها عقوبة تناسب الأفعال الخطيرة التي قام بها مجرمو النظام الليبي السابق، لكنها لحظات تنتهي فور نهاية فعل الإعدام ليتجدد في نفوس آخرين حب لحظات التشفي والقتل التي حان الوقت أن نئدها في عالمنا العربي المليء بالدم والعنف، فهل يفعلها الليبيون؟... ويكونون القدوة الآتية من الجناح المغاربي للعالم العربي بإلغاء حكم الإعدام قبل محاكمة سيف الإسلام والسنوسي، وهو القرار التاريخي الذي سيمثل دفعة كبيرة لقاطرة سحبنا وخروجنا من هذه الحالة من العنف ودوامة القتل المتبادل في العالم العربي.