-1-

Ad

برزت الولايات المتحدة الأميركية للعالم كقوة عظمى اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، بعد الحرب العالمية الثانية، بسبب خروج جيشها من أراضيها، ربما لأول مرة في تاريخها، للدفاع عن حرية أوروبا، وإسقاط النازية والفاشية و"العسكرتاريا" اليابانية، ووضع حد لانتشار الشيوعية، وكبح جماح الاتحاد السوفياتي والصين. وكان لتبني أميركا لمشروع إعادة إعمار أوروبا (مشروع مارشال 1947) وتمويله والإشراف عليه، الأثر الكبير لدى الأوروبيين لتتويج أميركا كقوة غربية عظمى في العالم. كما كان ذلك، من أجل تصدى أميركا بالدرجة الأولى لمحاربة الشيوعية، ووقف تمدد الاتحاد السوفياتي في دول أوروبا الشرقية والشرق الأوسط، ومساعدة شعوب هذه الدول على الثورة ضد الاتحاد السوفياتي، كما حصل في ربيع براغ عام 1968 في التشيك.

-2-

ما من غني، وقوي، وعظيم، إلا محسود. هذا على مستوى البشر والأفراد في كل زمان ومكان، وكذلك الحال بين الدول، فجزء كبير من كراهية شعوب العالم لأميركا، ناتج عن أميركا التي- وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي- أصبحت القوة العظمى الوحيدة في العالم، وأصبحت تقرر سياستها تجاه الدول والشعوب الأخرى على هذا الأساس، ولا تلتفت إلى مسألة توازن القوى، التي كانت مهمة، أثناء الحرب الباردة بينها وبين الاتحاد السوفياتي.

لقد تمركز الحقد والحسد لأميركا في دول أميركا اللاتينية، وإفريقيا، والشرق الأوسط، وجزء من أوروبا كفرنسا في عهد الديغولية خاصة، وفيما عدا بعض الدول الأوروبية، فإن الدول والشعوب الحاقدة والحاسدة لأميركا، هي دول ضعيفة وفقيرة، وتنتظر من أميركا أن تفعل لها المعجزات باقتصادها وسياستها، دون أن تكون في هذه الدولة أرضية صالحة ومهيأة لاجتراح مثل هذه المعجزات لو صحّت، وصدقت.

-3-

لكن الكراهية والحقد والحسد العربي لأميركا، تفوق كل كراهية، وكل حقد، وكل حسد.

فمن المعروف أولا، أن الفرد العربي والشعب العربي عموماً، هم من أكثر الشعوب حسداً للغني، والقوي، والمسيطر، ولذا جاء ذُكر الحسد والحاسدين والتحذير منهم، في القرآن الكريم، واضحاً وصريحاً في عدة آيات منها:

"أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا" (النساء: 54).

"وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ" (الفلق: 5).

كما جاء ذكر الحسد في الحديث النبوي الشريف، كقوله: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلمها، ورجل آتاه الله مالاً، فسلَّطه على هلكته في الحق".

وقوله: "إن الغلَّ والحسد، يأكلان الحسنات، كما تأكل النار الحطب".

وامتلأ ديوان الشعر العربي بأبيات كثيرة عن الحسد والحاسدين، والتحذير منهم. وكل هذه النصوص التراثية، تدلنا على مدى تغلغل الحسد في النفس العربية، وتأثيرها في حياة العرب، علماً أن ضرر الحسد وضرر الحقد كذلك، يعود على الحاسد والحاقد، لا على المحسود، والذي يُحقد عليه. ولكن العرب خففوا من سيئات الحسد، وأدركوا أن الحسد مهم للنشر الفضائل، فقال الشاعر:

وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسـان حسـود

ولعل مثل هذه الأدبيات المختلفة، موجودة في تراث الأمم الأخرى.

-4-

ولكن حسد وحقد العرب على دولة كأميركا مضاعف جداً، بل إن كل من يقترب من أميركا وسياستها بشكل إيجابي، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، يُرشق في الشرق الأوسط بالحجارة، وتنهال على رأسه اللعنات. ذلك أن العرب إضافة إلى أنهم يشاركون شعوب الأرض الأخرى في كراهية أميركا، إلا أنهم لهم أسبابهم الخاصة في زيادة هذه الكراهية واستشرائها. وأبرز هذه الأسباب يتلخّص في مساندة أميركا لإسرائيل ودعمها بلا حدود، وعدم المساعدة على حل القضية الفلسطينية، ومساندة أميركا لأنظمة حكم عربية، وغزو أميركا للعراق... إلخ. وقد ازداد كُره العالم العربي والإسلامي لأميركا خاصة، بعد كارثة 11 سبتمبر 2001. وهو الاستنتاج الرئيسي الذي توصلت إليه "اللجنة الفرعية للمنظمات الدولية وحقوق الإنسان بلجنة الشؤون الخارجية التابعة لمجلس النواب الأميركي"، في تقريرها الصادر يوم 11 يونيو 2008 بعنوان: "تراجع سمعة الولايات المتحدة دولياً: لماذا؟" حيث أشار بيل ديلاهنت رئيس "اللجنة الفرعية للمنظمات الدولية وحقوق الإنسان" في افتتاح الجلسة إلى أن أغلبية استطلاعات الرأي توصلت فيما يشبه التوافق العام، إلى أن السياسة الخارجية الأميركية في عهد إدارة الرئيس بوش الابن، قد أدت إلى تنامي تيارات مناوئة للمصالح الأميركية، سواء في منطقة الشرق الأوسط أو في إطار "حلف شمال الأطلسي"، أو بين دول أميركا اللاتينية. وهو ما أثار تساؤلاً مهماً حول أسباب هذه الظاهرة، وأثرها في وضع الولايات المتحدة في النظام الدولي، الذي يشهد تحولات في طبيعة التفاعلات الدولية، ووزن الفاعلين الدوليين المشاركين في إطارها.

-5-

وكشفت استطلاعات الرأي– مثلاً- بين عامي 2002 و2006 عن تراجع شعبية الولايات المتحدة خلال هذه الفترة بنسب تتراوح بين 45% في إندونيسيا، و40% في تركيا، و27% في بريطانيا، بينما تصاعدت المؤشرات الإحصائية الدالة على تنامي كراهية الولايات المتحدة في الدول الإسلامية وأميركا اللاتينية لتصل إلى 82% و86% على التوالي، وأن حوالي 86% من المنتمين إلى النخبة السياسية في دول أميركا اللاتينية، يرون أن السياسة الأميركية تجاه دولهم لا تتمتع بتأييد شعبي.

وتعززت هذه النتائج، بما كشف عنه مركز "بيو لاستطلاعات الرأي العام" في استطلاعه الدولي عام 2008 من تقلّص لشعبية الولايات المتحدة دولياً بين عامي 2002 و2008، مما دفع أندرو كوهت رئيس مؤسسة "بيو" للقول، بأن هذا التناقص يُعد الأبرز في تاريخ الولايات المتحدة خلال الخمسة والعشرين عاماً الماضية.

وخلُصت الأبحاث، إلى أن سبب زيادة قُبح وجه أميركا في العالم وفي العالم العربي والإسلامي خاصة، يعود– إضافة إلى الأسباب السابقة الخاصة بالعرب والمسلمين- إلى أن الحرب الأميركية على الإرهاب، بما انطوت عليه من مبادئ مثيرة للجدل، مثل الضربات الاستباقية، والتقسيم الثنائي للعالم بين محوري الخير والشر، فضلاً عن استدعاء مقولات صدام الحضارات، قد أثَّرت في تحوّل حالة التعاطف الدولي مع الولايات المتحدة عقب أحداث 11 سبتمبر 2001 إلى شعور بالاستياء تجاه السياسات الأميركية، لدرجة أن بعض القائمين على مؤسسات استطلاع الرأي أكدوا، أن تأييد الولايات المتحدة لم يشهد تدنياً إلى هذا المستوى، في أي من فترات تاريخها بما في ذلك الحرب الباردة.

وقال جون تيرمان- المدير التنفيذي لمركز "الدراسات الدولية" بمعهد ماساشوتس للتكنولوجيا: "إن الدور الدولي للولايات المتحدة يتعرض للتقلص بشكل كبير نتيجة إعادة رسم الحدود الجيوسياسية الدولية في ضوء ثلاثة عوامل رئيسة، تتمثل بالتالي:

1- نهاية الاستقطاب الإيديولوجي الدولي، الذي ساد إبان فترة الحرب الباردة.

2- ظهور تكتلات اقتصادية منافسة للولايات المتحدة، مثل الاتحاد الأوروبي، والصين.

3- تصاعد أهمية القضايا البيئية، ذات الصلة بالتنمية المستدامة".

* كاتب أردني