(فاتح ومدينة): صلاح الدين يعفو عن أعدائه في فتح القدس
سقطت مدينة القدس في يد القوات الصليبية لتخرج من حوزة الإسلام للمرة الأولى في سنة 492هـ/ 1099م، لتسبب أزمة نفسية للمجتمع المسلم كله، الذي شاهد وسط عجزه وتفتت قواه السياسية بين عدد من الكيانات والدول والإمارات، المذبحة التي ارتكبها الصليبيون عند دخولهم المدينة المقدسة، ولم تستطع القوى الإسلامية في سورية ومصر والعراق أن تدافع عن المدن الإسلامية وسط تفتتها، وقادت مدينة حلب تحت زعامة البيت الزنكي محاولات توحيد الصف المسلم، حتى استطاع السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي توحيد مصر والشام وشمال العراق في وحدة جامعة، وبدأ في الاستعداد لاستعادة بلاد المسلمين وعلى رأسها بيت المقدس.خرج صلاح الدين الأيوبي على رأس قواته من القاهرة وهو يضع نصب عينيه هدفاً واحداً وهو دخول بيت المقدس فاتحا، وبدأ مشروعه بفتح قلعة طبرية سنة 583هـ/ 1187م، هنا شعرت القوى الصليبية في بلاد الشام بخطورة الموقف وجديته، فقامت بحشد قواها في سهل قرية حطين قرب طبرية، واصطدمت قوات صلاح الدين بقوات الصليبيين وانتصرت عليها انتصارا ساحقا دمرت فيه قوى الصليبيين في بلاد الشام، وسقط ملوك وأمراء الصليبيين أسرى في يد صلاح الدين، الذين نالوا عفوه إلا حاكم الكرك الأمير «أرناط» الذي قتله صلاح الدين بيده وفاء لغدره وخيانته المواثيق والعهود مع المسلمين.
استثمر صلاح الدين الأيوبي انتصاره الكبير باسترجاع عدد من المدن الساحلية التي كانت في حوزة الصليبيين، ولم يشأ صلاح الدين أن يتوجه مباشرة إلى بيت المقدس، بل فضل أن يسترد مدن الساحل لقطع الإمدادات المتوقعة من أوروبا التي كانت ستهب لنجدة إخوانهم في المشرق، لذلك فتح صلاح الدين مدن عكا والناصرة وحيفا ونابلس وجنين وبيسان ويافا وصفد وبيروت والرملة وبيت لحم والخليل. لم يعد هناك من أمر إلا أن يتقدم صلاح الدين بقواته صوب القدس، وبالفعل بدأ حصار صلاح الدين للمدينة المقدسة، الذي استمر 14 يوما، وكان صلاح الدين حريصا على المدينة وسلامتها، لذلك عندما هدد بالانتقام من مذابح الصليبيين عندما دخلوا المدينة أول مرة وقتلوا جميع المسلمين، هدد الصليبيون بحرق المدينة، وقتْل من عندهم من أسرى المسلمين، وتخريب الصخرة وما بقي من المسجد الأقصى، وقتل أهلهم، والخروج على المسلمين مستميتين للقتال.هنا رأى صلاح الدين أن يؤمنهم على أرواحهم حفاظا على المقدسات الإسلامية، وأن يعطيهم مهلة أربعين يوما لمن أراد الخروج من المدينة على أن يدفع مقدارا من المال، ولا يحمل معه سلاحا اكتفاء بالأمتعة والمقتنيات.وفي يوم (الجمعة) 27 رجب سنة 583هـ/ 12 أكتوبر 1187م، دخل صلاح الدين الأيوبي مدينة القدس، لترفرف على أبراجها الأعلام الإسلامية بعد فترة انقطاع دامت ثمانية وثمانين عاما، وأظهر صلاح الدين من دروب التسامح والعفو عن الصليبيين ما خلد اسمه في سجل عظماء التاريخ، الذي ضرب مثلا لا ينسى في الترفع.