في مفتتح معرض "البرونز" الضخم، في "الأكاديمية الملكية" تستقبلك منحوتة يونانية مدهشة من البرونز، وضعت قبل أكثر من مئتي سنة قبل الميلاد، تصور "سايتر" (فتى أسطوري من أتباع إله الريح والخمرة "ديونيسوس") وهو في رقصة انتشاء دائرية عاصفة. وجه إلى الأعلى، عينان متطلعتان إلى مراقي النشوة، يدان توحيان بالطيران. حتى إن فقدان نهايات اليدين والساقين تمنحان الفتى الغر إيحاء رائعاً بالانفلات من ربقة الأرض.

Ad

قد تكون هذه المنحوتة، أو بقاياها، جزءاً من عمل متعدد الشخوص يضم، فيمن يضم، ديونيسوس نفسه. غرقت مع سفينة غارقة في تلك المرحلة المبكرة، ثم اكتشفت مؤخراً (عام 1998) من قبل صيادين في مضيق صقلية الإيطالي. ثم تعرض هذا العمل الملهم إلى محاولات سرقة فاشلة من قبل المافيا.

مُفتتح أكثر من رائع لمعرض لا يقل تأثيراً عن معدن "البرونز" كمادة بالغة الأهمية شأن الحجر أو الخشب، في فن النحت منذ زمن إنساني مبكر كزمن السومريين والصين القديمة، واليونان، مروراً بإفريقيا، وعصر النهضة حتى اليوم. المعرض انتخب 150 عملاً عالمياً متميزاً، لا يكشف عن المراحل التاريخية فحسب، بل أيضاً عن طبيعة التعامل مع المادة بين الأجناس البشرية: آسيوية، إفريقية، أوروبية، أميركية...)، إلى جانب التيارات الفنية المُحدثة من الواقعية حتى المستقبلية والتجريدية.

المعرض اعتمد الموضوع في توزيع الأعمال: شخوص، آلهة، حيوانات، جماعات، رؤوس، مشاهد، ريليف... إلخ. على أن نحت الشخص الانساني يظل الموضوع الأكثر إغراءً وشيوعاً بين الفنانين عبر العصور. وخصص المعرض جناحاً لتبيان تقنيات العمل بمادة البرونز في مراحلها التاريخية، عبرعمليات صياغة المنحوتة الطينية أو الشمعية، ثم صنع القالب النحتي وطرق إفراغه وصبه.

مادة البرونز ذات خصائص سحرية في عملية النحت، وفي المنحوتة المكتملة معاً. طيعة في توسعها لملء فراغات التفاصيل الصغيرة في القالب المُعد، وسهلة الفصل عنه حين تبرد. دائمة الصلابة التي تضمن لها المقاومة في الزمن، كما أن صلابتها تسمح للفنان في أن يُعنى بـ"الحركة" في المنحوتة على هواه. الأمر الذي لا يصلح مع الحجر، والخشب، والسيراميك.على أن هذه المادة الأمينة كانت عرضة أكثر من الحجر والخشب إلى أن تُصهر منحوتاتها أيام الحروب، لصنع الأسلحة ومعدات الحرب. وعادة ما يتكون برونز النحت من نحاس (90 في المئة) وقليل من الصفيح (10 في المئة). وهذه النسبة الضئيلة من الصفيح كفيلة بتخفيف كثافته، والتأثير على لونه. وقد بدأ استخدام هذه المادة في منطقة الشرق الأوسط في مرامٍ شتى، مثل أدوات الاستخدام، وآلات القتال، ورموز الشعائر، وأعمال الزينة. ومع تقدم البراعة التقنية بدأت محاولات نحت البشر والحيوان.

المدهش أيضاً أن سبل الصياغة والقالب والصب، وكذلك اعتماد التشخيص، والحركة، واللعب بين الدقة المتناهية والضخامة الطاغية، ظلت كما هي، ويصح عليها قول أحد النقاد بـ"أن فن النحت هذا لم يتطور عبر 5000 سنة، بل تغير فقط".

منحوتات الحضارات الشرقية القديمة عادة ما تتميز بصغر الحجم، ولعل اليونان هم من بدأ نحت الانسان بالحجم الطبيعي. ثم بدأت المبالغة في الضخامة مع عصر النهضة، كما هو واضح في عمل "تشيلليني" 1500-1571: "بريسيوس مع رأس ميدوزا"، الذي يحتل أفقاً بالغ التأثير في قاعة العرض. رأس "ميدوزا" التي تُحجّر كلَّ من نظر إليها، يمسكه بيد الشمال، والسيف يرفعه في اليمين. وجسدها مُلقى تحت قدمه دون رأس.

والطريف أنك أمام منحوتة صغيرة لامرأة تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد من منطقة أتروسكان (توسكاني الحالية) بالغة الاستطالة والنحافة، لا يمكن إلا أن تستعيد أعمال الفنان السويسري جياكوميتي النحتية ذات الامتداد الخيطي. فمن هنا التقطت حساسيته التكوين الذي وجده يعبر عن كيان الانسان الغربي الحديث في متاهته.