تنويعٌ على البرق (1)
كان أبو نواس قد استعار البرق للخمرة حين كتب بيته:وفتية نازعوا، والليل معتكرٌ، برقاً تلوح به أيدٍ وأقداحُ
ولم يكن يريد البرق لذاته، إلا أن البيت يجعل البرق كذلك بصورة غير مباشرة وخفية. ففي اعتكار الليل تلوح الأيدي والأقداح بفعل خطفة البرق، حتى لو كان هذا البرق خمراً في القصد، إلا أن مهمة البرق في الكشف الخاطف تظل مهمة البيت الشعري. والبرق لدى أبي العلاء يستقل بهذه المهمة السحرية، بسبب عتمة أبي العلاء الروحية والبصرية، فيكون الكشاف في عتمة الاسراء. وبفعل دوام هذه العتمة (في ديوان «سقط الزند» خاصة) يتكرر البرق كمصباح هداية، ولكن بصورة خاطفة أيضاً، وهذه الصفة، بالإضافة إلى مصدره الكوني، تعطيه تأثيره السحري.أبو العلاء يخاطبه: «يا ساهر البرق» علّه يروي الشجر الظامئ. ولا يعتمده حين «يتناعس»، في قصيدة أخرى، في السير ليلاً. أو حين يراه «يأتي الحِمى نضواً طليحا»، ويصف لمعان الأرض بسببه فيشبه اللمعان بعين مقروحة الجفن لا تقدر على الإغماض. ولكنه:إذا ما اهتاجَ أحمرَ مستطيراً، حسبت الليل جندياً جريحا في كثير من قصائد «سقط الزند» هناك إسراء شديد العتمة، شديد الوحشة، تتابع فيه صور غرائبية تنتسب إلى الليل، الذي يبدو، داخل الشعر، لا ينتسب إلى ليل عالمنا الدنيوي. وحسبي شاهدٌ واحد من ميميّته التي يجيب فيها «أبا القاسم بن جلبات» عن قصيدة مدحه فيها، فهو «يسري» نحوه «بعيس تجوب الدهر»، مفتشةً أحشاءه عن كرامه. وهذه العيس بيض خفافٌ، إذا أرزمت وهمهمت فلا صدىً ولا استجابة من الليل الأخرس، إلا من طائر «الهامة» الأسطوري، الذي ينطوي على روح قتيل. وهذه العيس حذرة بفعل الرعب من الظلمة، حتى أنها لو «وطئت في سيرها جفن نائم بأخفافها، لمْ ينتبه من منامه». وها هو البعير الضامرُ يأمل بضوء الصبح، «ولا ضوء إلا ما بدا من» زبده الذي يطفح من فمه. ولا يرى الماء الذي يخوض فيه بسبب لثام الخضرة الآسنة التي تعلوه. حتى ريح الصَبا تخاف من المكان، في أن تصيبها داهيةٌ من خلال آكامه. وكذلك ارتفاع النهار، لا يمر به إلا مُتلثّماً «مخافةَ أن يغتاله بقتامه». والبدر شاحب من شدة هجيره، والنجمُ ضالٌ. حتى الموت أصبح أعشى فلا يهتدي لضحيته!في عتمة كهذه تبدو الأشياء رموزاً، والمشهد استعارة كلية لعتمة الروح. وهنا يأخذ البرق الخاطف صفة الرمز داخل هذه الاستعارة.في الشعر الحديث أخذت رؤية البرق بعداً آخر عند بدر شاكر السياب. لنتابع شيئاً من ضربات فرشاته التعبيرية في قصيدة «شناشيل ابنة الجلبي». ففي مشهد مرئي بصورة واقعية نقرأ: «وأرعدت السماء فرنَّ قاعُ النهر». «وأبرقت السماءُ... فلاح، حيث تعرّج النهرُ/ وطاف معلّقاً من دون أُسّ يلثم الماء/ شناشيلُ ابنةِ الجلبي». وبعد ذلك نقرأ: «أرعدت السماءُ، فطار منها ثمة انفجرا/ شناشيل ابنة الجلبي». البرق هنا والرعد مبعوثا العالم الآخر، العالم الماورائي، نراه محسوساً في تلك اللحظة الخاطفة. إنه من ظواهر الوعي الباطن، بحيث أن الشناشيل الذي ينتسب لعالم السياب السفلي لا مجال لحضوره الحسي المرئي إلا تحت أشعة البرق ووقع الرعد السماويين. وتلح بصيرة السياب الشعرية عليه في أن يتابع الومضات الخاطفة، فيرى ذُرى قوس السحاب تلوح في الأفق، وفجأة يلوح شناشيل الجميلة يسارق النظر، وإذ ينظر الشاعرُ لا تصيب عينُه إلا حمرة الشفق. هذا المشهد علويّ لا علاقة له بظواهر الطبيعة، ويذكرني بأفق الجواهري الدامي:أرى أُفُقاً بنجيع الدماء تغّوّرَ، واختفت الأنجمُولذلك حين يصحو السياب في آخر القصيدة متذكراً السنوات الثلاثين التي انقضت على حبه يستدرك «غير أني كلما صفقت يدا الرعدِ/ مددْتُ الطرفَ أرقب: ربما ائتلق الشناشيلُ/ فأبصرُ ابنةَ الجلبي مُقبلةً على وعدي!». إن الشناشيل وابنة الجلبي وليدا البرقِ وأسيراه. لأن البرق وسيط ومفتاح، ومدخل سري للعالم الآخر.