للسذاجة أيضاً حدود
يخيل إلي في بعض الأحيان أن الله سبحانه وتعالى لما قسّم السذاجة على شعوب العالم، أعطى حصة الأسد لنا نحن الأكراد، فقد ابتلينا بهذه الصفة غير المحمودة، وهي تعني؛ الثقة الزائدة بالناس وبخاصة الأشخاص الذين ليسوا أهلاً لذلك، التبعية العمياء للآخرين والمبالغة في التسامح والعفو حتى مع الأعداء، والساذج يظل دائما على نياته الطيبة وفطرته الصافية لذلك يسهل خداعه واستدراجه. وبما أننا سذج، والسذاجة التصقت بنا التصاق الروح بالجسد، حتى أصبحت قدرنا الذي لا نستطيع الفكاك منه، ولو "بالطبل البلدي" على حد قول إخواننا المصريين، فإننا نتعرض دائما لعمليات خداع ونصب مستمرة من قبل كل من هبّ ودبّ من الشعوب والأمم المجاورة وغير المجاورة، حتى أصبحت حياتنا سلسلة من المؤامرات المحبوكة والمقالب السياسية "البايخة" التي تحاك ضدنا، وكثيرا ما يتم ذلك بموافقة وتعاون مسبق من عندنا، دون إكراه أو إجبار من أحد، وآخر هذه العمليات التي كلفتنا الكثير من التضحيات كالعادة؛ المشاركة في إسقاط النظام البعثي مع الجيش الأميركي، وإرسال قوات البيشمركة إلى بغداد لاستتباب الأمن فيها، ومن ثم المساهمة في تأسيس الدولة العراقية الجديدة وإقامة مؤسساتها وتفعيل دورها دوليا وإقليميا، مقابل ماذا؛ مقابل لا شيء! كل ما استطعنا الحصول عليه، كم وزارة مجردة من الصلاحيات والفعاليات، "لا تهش ولا تنش"، يحركها الحاكم بأمر البلاد "نوري المالكي" كيفما يشاء، بينما ظلت المشاكل الكثيرة العالقة بين المركز والإقليم على حالها، لم تحل، ومواد الدستور تعطلت وبخاصة المادة 140 التي تعالج أعقد صراع تاريخي بين الكرد والعرب، والفدرالية غدت مجرد حلم ديمقراطي جميل نتغنى به أمام العالم، لم يتغير أي شيء، كل يوم نبدأ من النقطة التي انطلقنا منها أول مرة، وهكذا ما إن نخطو خطوة حتى نرجع خطوة إلى الوراء، ولا أحد يستطيع أن يوقف زحفنا القهقري. و"ياريت" وقف الأمر عند هذا الحد، بل أصبحنا مهددين في عقر دارنا من قبل قوات عسكرية عراقية "خمس فرق بكامل عددها وعدتها"، وهي تنتظر إشارة من القائد العام للقوات المسلحة ورئيس الوزراء ووزير الدفاع والداخلية ووزير الأمن والاستخبارات والمخابرات العامة، والكل في الكل "المالكي" لتقتحم المدن الكردستانية، وتعيث فيها الفساد، وتعيدها إلى سابق عهدها من ظلم وظلام. يبدو أن حزب الدعوة الحاكم قد حسم أمره فعلا للتخلص من الشريك "الكردي" الثقيل الظل، وإنهاء دوره السياسي الفاعل في العراق كما تخلص من الشريك "السني" أو كاد أن يتخلص منه نهائيا، وهو يحاول جهده لإنهاء هذا الأمر بكل ما أوتي من قوة، وعلى كافة المحاور، كما فعل مع الطرف السني، ولكن الشريك الكردي على الرغم من قلبه الطيب وانخداعه بالكلام المعسول والوعود السياسية الفارغة دائما، صعب المراس في المواجهات العسكرية، وصلب في ميادين القتال، لا يمكن أن ينهزم بسهولة. أسوق هذا الكلام، لأن "المالكي" يحاول هذه الأيام أن يجرب حظه في ميادين أخرى غير السياسية التي فشل فيها، ويدخل في صراع عسكري مع القوات الكردية "البيشمركة"، وقد جمع خمس فرق من جيشه المهلهل "أكثر من مئة ألف عسكري" لمواجهة تلك القوات المرابطة هناك منذ 2003 بحجة مراقبة الحدود السورية من متسللي "القاعدة" الإرهابيين، وهذا مبرر ضعيف وحجة واهية لإخضاع الكرد "العقبة الحقيقية أمامه" إلى هيمنته السياسية، وفرض واقع استعماري قمعي على المجتمع الكردي، لا يختلف عن الواقع الذي كانت الحكومات العراقية المتعاقبة تحاول فرضه بالقوة الجبرية، ولكنها فشلت وسقطت واحدة تلو أخرى واندثرت، بينما بقي الكردي ذلك الساذج الذي يؤمن بالإنسان ويصدق بكل كلمة تصدر منه، ولو كانت على سبيل الخداع، محافظا على كيانه ومطورا لمجتمعه متقدما على باقي المجتمعات العراقية الأخرى، "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ"، سورة الرعد. كاتب عراقي