إميل المعلوف في «رواجع البروق»... له من البرق ما يرجع غداً وبعد غد

لا يزال في عصرنا، رغم التقهقر الكتابيّ، حملة أقلام يحترمون نقطة الحبر فلا يدخلونها ذمّة بياض الورق ألاّ حين يجدونها حبلى بالكلمة التي يجعلها الجمال ذات حقّ كبير في الحياة. وهؤلاء، على قلّتهم، يؤمّنون استمراريّة الحضور الابداعيّ، ويفضحون كلّ هشاشة مدّعية الامتلاء، ويدلّون برؤوس أقلامهم على كلّ ما يوهم بالطيران وليس عصفوراً، وعلى كلّ ما ينتحل الأزرق ويرتفع وليس قطعة من سماء.

اللّمع التي يختارها المعلوف تحرّضه على نصوص تكون ظلالاً لها، وهي مفاتيح ذهبيّة لأبواب عميقة  فيه، مرصودة على عبارة يقولها كبير من كبار القلم، و هكذا عرف كيف يفتح أبوابه لينتعش بنسيم المعاني التي تشبه وجعه الوجوديّ وبطريقه، أهدى إلينا مفاتيحه ومن منّا بلا أبواب تنتظر رنين المفاتيح؟!

صدّر المعلوف رواجعه بمقدّمة قيّمة أتت بمثابة بوصلة تنبئ القارئ باتجاهات الرياح، وبالأمكنة التي ستعصف بها. فالبرق ليس سوى الالتماعة التي يوفّق  كاتبها بها، وقد تكون جملة من شعر او من نثر، والرجوع ليس سوى عمر طويل أهدي الى البرق المعروف بقصر العمر وكأنّنا بالمعلوف يقول: كلّ البروق خارج جغرافية الحبر الأصيل أوهام  تحتاج الى عمر يجعلها حقيقة، في حين أن بروق الكلام تمنحها الاقامة في ذاكرة الناس ووجدانهم أعماراً لا يذهب بها مرّ الأيام.

في «رواجع البروق»، يبحر المعلوف الى جزر الطمأنينة والصمت مع ميخائيل نعيمه والبير سامان، وشفيق المعلوف وكيانغ تسونغ، ولوركا، وريلكه، فالسلام تصنعه بيوت تحت اسقفها عائلة مكلّلة بالحب ومواقد تتنافس والقلوب في صناعة الدفء. ويحلو البيت إذ يرتدي غلالة الأنوثة، وتمسي المرأة ذات ابواب و شبابيك مفتوحة لنسيم الجمال والحياة ويورد المعلوف في هذا السياق أنّ بدويّاً سأل آخر: «هل لك بيت، أي امرأة؟».

أحلام اليقظة

أمّا البيوت المبنيّة من المادّة فهي تسكن أصحابها مثلما هم يسكنونها، و لها من الصبابة والكلام والدمع ما لهم، بشهادة الشاعر سيدوك الواسطي: {وكادت تناجينا الديار صبابةً/ وتبكي كما نبكي عليها المنازل؟».

ومع المتنبي، وانا كساغوراس، وألبير كامو، يسير المعلوف تحت قناطر أحلام اليقظة، ويعلن أن: «أحلام اليقظة لا تنظر في الأشياء من جهة ما هو موجود فيها بل من جهة ما ليس موجوداً فيها»، منسجما ًمع المتصوّف يحيى بن معاذ الرازي بقوله : «قوّة اليقين ترك ما يرى لما لا يرى}، ومع سارتر حين يقول: «وجب ان نخترع قلب الأشياء إذا أردنا يوماً ان نكتشفها». فالمعلوف يكتب نصّه وعلى قلمه تشدّ اصابع عشرات الشعراء والأدباء والفلاسفة، فيشعر القارئ انّه ليس امام نصّ كثيف فحسب انما هو في باحة عملاقة مكتظّة، ولا يصل اليها إلا حامل القلم ذي الكلمة الذهبيّة. ومكمن الروعة إن صاحب الرواجع لا يستشهد بكباره استعراضاً لقدراته المعرفيّة، لكنّه يمضي الى التحليل والمناقشة على مستوى ادبي وفلسفي كما في قراءته بيت المتنبي: «لبس الثلوج بها عليّ مسالكي/ فكأنّها ببياضها سوداءُ»... ولثنائيّة التذكّر والنسيان يحشد المعلوف باقة شعريّة متعدّدة الأصوات ويستعين بمجهر الفلسفة لأجل رؤية فكرية تحاول اليقين، فيرى أنّ التذكر: «يفيد الحاضر ولكن الحاضر بدوره يمنح التذكّر مظهر حياة. فالتذكر ميّتٌ في جوهره ولا يحيا إلاّ عندما يرتبط الحاضر المعاش بحدث عاطفي راهن». وما تذكر الماضي سوى تحويله صورًا في المتذكرين تتكرس جزءاً من الحاضر وذاكرة قريبة جاهزة لأن تجود ببضاعتها لحظة تدعو الحاجة.

وتحت عنوان تزامن العمل الشعري عرض المعلوف كيفية تعاطي الشاعر العربي الكلاسيكي مع الزمن فوجد أن للشعر الكلاسيكي خضوعاً للزمن الأفقي كما للنثر الموضوعي، لانّ وعي الشاعر يمنعه من الخروج على التتابع الزمني للمشاعر والأفكار، فلا تقديم ولا تأخير انما التزام بتسلسل الأزمنة فالماضي لا يجتاز المستقبل، والحاضر لا يطرق باب الكلام قبل الماضي... وما يثبت ذلك قول الشاعر: {هناءٌ محا ذاك العزاء المقدّما/ فما عبس المحزونُ حتّى تبسّما».

نبوغ وتجربة

وعلى شرفة العزلة والتوحّد يقف المعلوف طويلاً مع المعرّي، وميلوز، وكيركغارد، وأوفيد، وسينك، وريلكه، وروسو، وأغنار دو غروت، ويسوق المياه الى طاحونة التحليل من وحدة الى وحدة، ويدلّ على أصحاب النبوغ والتجربة الذين يهربون من السخافة وناسها الكثيرين، ويلوذون بأنفسهم مالئين وحدتهم بظلالهم. وللاحتفال بالحبّ والموت استضاف المعلوف على بياض ورقه كباراً متألمين لهما وبهما، ويستشهد بقول كبريال مارسال: «أن تحبّ أحدهم هو أن تقول: أنت عصيّ على الموت»، ويردّ عليه بأن ما من أحد على الموت عصيّ، و{ما من منزلة أقدر من الحبّ على أن تدني بين عاشقين، غير أنّ الحب معجون بالألم و كلّ ما خضع للألم خضع للموت، فإذاً إنّ الحبّ أعجز من أن ينجّي أهله من الموت».                                             

ومتابعة لبناء النصوص في ضوء هندسة التعارض يقف المعلوف بين الشيخوخة وأوائل العمر ويطرّز الزمان بجميل الكلام المختار على وجع، فيعالج متمهلاً سرعة الوقت الذي لا يرتاح في فيء شجرة من باب الحياة الى باب الموت، فكأننا: «في قدومنا العالم وخروجنا منه نعير الحياة بعضنا لبعض كالعدّائين الذين ينقلون الشعلة من يد الى يد»... ويشدّ المعلوف على يد الزمن كثيراّ محاولاً معرفة معناه، ويجده على ارتباط جوهري بوجود الإنسان وإن كنّا لا نستطيع اثبات وجوده إلا بأن نعيشه ونعيش الحسرة مع تصرّمه وانقضائه.                                                     

ولا يرتوي المعلوف من انزال جرّته الى بئر الزمن. فيطيل النّظر الى سهل الزمن المترامي إلى اللانهاية من أبراج مختلفة المواقع، ويسعى الى قراءة الحاضر ورسم خطوطه الزّرق على حدود الماضي والمستقبل، غير أنّ هذه الخطوط وهميّة لأنّ في الحاضر يقيم بعض من ماض انقضى وبعض من مستقبل لمّا يأت. فالأزمان تتداخل وما الغد سوى رجاء الأمس، وما الأمس سوى  خبز الحاضر ومائه، وإذا كان من ميادين للزمن: «ميدان المستقبل التمنّي أو الانتظار الغافل، في حين أنّ الأسف هو ميدان

الماضي»....                                                                  

رواجع البروق حديقة من حدائق الجمال المعلّقة، وبناء أنيق يجمع تحت سقفه الذين أغروا الحياة بالإقامة في كلماتهم، وبين هؤلاء ينتقل إميل المعلوف ويتبادل الكلام معهم واحدًا واحدًا، وهم المقيمون في وجدانه، وما الورق إلا مرآة تبوح بضيوف الوجدان.