الأوطان الخُدَّج
الوطن ليس السلطة الحاكمة، وهو كذلك ليس الشعب، والأهم أنه ليس تلك المساحة الجغرافية المحددة بعدد من الكيلومترات، وحتماً فإن الوطن ليس الطائفة، ولا المذهب، وليس القبيلة أو الأسرة، الوطن هو كل ما يقع في المساحة الممتدة بين سماء الوطن وترابه عبر الزمن، أي أن ذلك يشمل الماضي والحاضر والمستقبل!كل ما يقع ضمن هذه المساحة هو جزء لا يتجزأ من الوطن، واستبعاد أي جزء لأي سبب يعطينا وطناً ناقصاً، "وطن خديج".
الناس، الأشجار، البيوت، الشوارع، أسلوب العيش، القوانين التي تنظم علاقة الفرد بالكل، والأطر التي تحمي حقوق الأفراد والجماعات، والتراث، والسُّلْطة، ونوعية الأطباق الغذائية المفضّلة، والفنون، والطيور التي تجول في سمائه، والحيوانات التي تدبّ على أرضه، والمرافق العامة، واختلاف الأثنيات والمعتقدات والأفكار، تصوُّر الغد الآتي، كل ذلك وأكثر يعتبر ضمن الفسيفساء التي تكتمل بجانب بعضها البعض لتقدّم لنا الوطن بصورة آنية زهر، وحوض لأسماك الزينة... حتى الممارسات والسلوكيات والصور التي يرتكبها ويرسمها البعض وتكون سيئة أو مؤذية من وجهة نظر البعض الآخر هي جزء من الوطن.قد لا يكون وجه الوطن جميلاً بتلك السلوكيات البشعة، أو بعض الممارسات التي تجعل العيش في أوطاننا كما نتمنى أمراً في غاية المشقّة، ولكن نحن لا نحب أوطاننا لأنها جميلة، نحبها لأنها أوطاننا.لكن لنعي أن من يولّد لدينا تلك المشاعر السلبية تجاه الوطن هم أناس من الوطن وليس الوطن ذاته... لذا نحن نحب الوطن رغم كل شيء. أظن أن كثيراً من التباس العلاقة بيننا وبين أوطاننا بسبب عدم وضوح صورة الوطن في وجداننا كما يجب، فينا من يظن أن المرادف لكلمة الوطن هو السلطة الحاكمة مثلاً، أو الطائفة، أو حتى الشعب... أظن أن الجميع يرتكب خطأ بذلك، لأنهم فصّلوا لباساً أضيق كثيراً من مقاس الوطن وإن اختلفت مقاساتهم.فينا من يظن أن هذا الحائط، أو تلك الشجرة، أو المصباح الواقف بجانب الرصيف ليس من الوطن، ولا يدخل ضمن المعنى الوجداني له، لذا قد يشوه ذلك الحائط بالكتابة البذيئة، ويكسر غصن تلك الشجرة، ويرمي بالحجر ذلك المصباح.لن يكتمل الوطن فينا طالما كل شخص منا يفصّل الوطن على مقاسه هو، يستبعد منه ما لا يريد ويُبقي على ما يحب، ويقلّصه كما يشتهي، ويختصره بالصورة التي تراه فيها عيناه فقط، هذا ربما وطنه الذي يتمناه، ولكنه ليس الوطن الذي يشاركه فيه آخرون.نحن نضيّق أوطاننا علينا لنضيق منها، فبعضنا يذهب به الجهل حدّاً أقصى ليضيّق مفهوم الوطن للدرجة التي يظن أنه هو الوطن!إن الوطن هو كل ما يقع في المساحة الممتدة من ترابه إلى سمائه، وأظن أن أي جزء منه لا يكون ضمن فهمنا للوطن، لابد أن يعتبر سرقة وطنية كبرى يحاسب عليها مرتكبها، أكبر حتى من سرقة جزء من ترابه.