أسماك فؤاد الطائرة
واحد من أهم عناصر الصفة الشعرية في النص هو التحام طرف التاريخ بالأسطورة، الواقع بالخيال، المرئي بغير المرئي، الظاهر بالباطن. هذا الالتحام حين يتحقق في النثر تصح عليه صفة الشعرية. لأن هذه الصفة لا تتحقق عبر الصياغة البلاغية للغة، كما يتوهم الكثيرون. ولذلك، وأنا اقرأ قصص العراقي فؤاد ميرزا "يوم طارت الأسماك" (الدار العربية للعلوم ناشرون)، أحسست بصفة الشعرية هذه تأخذني من يدي بيسر إلى حيث لا أعرف، ولا يعرف الكاتب أيضاً، لأن "النية المبيّتة" من خصائص النثر، ولكن حين تنعدم هذه "النية المبيّتة" يتماهى النثر مع الشعر.قصص هذا الكاتب السبعيني المُقل تتمتع ببراءة وعفوية عميقتين. قسط منها كتب في سبعينيات المنفى العراقي، والقسط الثاني كُتب في المنفى الغربي بعد ذلك (إيطاليا وأميركا). وربما كان منفى الكاتب في بلده ينفرد وحده بالتجريح والإذلال، مقارنة بالمنفى الغربي الذي يُحسن التعويض عن أذى الغربة. فالقصص جميعاً تنبعث منها رائحة الأذى القديم، الذي التاع منه ميرزا في صباه وشبابه، إلى أن هرب، كما هرب كثيرون، إلى المجهول. فهو من "الفيلية" المهمّشين سياسياً، الذين لم يُمنحوا الجنسية إلا بشق الأنفس. وهو من الشبان اللذين لم ينتموا في زمن كان الانتماء فيه سنّة، ولم يكترثوا لكل خساراتهم الفردية، وكانت معنوية في الأعم الأغلب. وهل يخسر المعدم شروى نقير؟ولذلك فالكتابة لديه كانت، وأستطيع أن أضيف الرسم أيضاً، السبيل السحري للحرية.
في نصه القصصي يفلت الكاتب من قيد الواقع إلى بحران المخيلة (لم ير أحدٌ صبياً بهذا الطول. نحيل دقيق مثل خيط، وحينما يصعد إلى سطح الدار، حيث يتجمع الأطفال لصيد السمك المسحور الطائر، يكون أحسننا حضاً وأكثرنا قدرة على الإمساك بالأسماك الطائرة...) ص20. وحين لا تفلت هذه المخيلة بدورها من مذاق الأذى، فإنه الأذى الذى تنطوي عليه التراجيديا، الأذى المُطهّر. بهذا المعنى تحقق الكتابة انعتاق الكاتب من الذاكرة المعتقلة بمخالب الأذى القديم. أبطال الكاتب كيانات حية، تنطوي على أبعاد حياة إضافية في الطية التي تلي الواقع. وهي عادة ما تنتسب للطفولة، للصبا، أو للفقر، لأن هذه المواقع الانسانية أرض خصبة للانطلاق من الواقع إلى ما وراءه. ولأن الكاتب واحد منهم فهو مشفقٌ دائماً، عطوف أبداً. الرقة التي يتعامل بها مع أبطاله أسيانة، ولكن ليست ذليلة. فالمخيلة كفيلة بتحقيق حرية متعالية: (نحن مثل جواد نتحول إلى محض ظلال... ظلال لا يراها أحد، ولا تخاف من أحد؛ فنعود أحراراً في نهاية المطاف) ص71. وأبطاله غير مسمّرين داخل الحياة الفقيرة أيضاً. فعامل الفندق قد يكون وطواطاً أيضاً، والشاب المجنون قد يكون حصاناً، والنهر صديقاً متحدثاً، وكذا النهر والغيمة والسمكة. ولكن هذه القصص التي قد تغري الصغار أول وهلة، تذهب أبعد من فطنة الصغار. فكلّ حيّ، وكل شيء فيها يضمر إيحاءً رمزياً، لأن الكاتب لا يولي أهمية لرصد الخلفية الواقعية. وأقول إيحاءً لأنها تغري بالتأمل السيكولوجي، والميتافيزيقي في طبيعة الانسان، أي إنسان.أما بشأن العلاقة مع الشعر، فلنا أن نقرأ النص التالي على أنه "قصيدة نثر" ناجحة، بالطريقة التي فهم فيها الأدب الغربي قصيدة النثر، لا بالطريقة العربية التي افتعلت مفهوماً لقصيدة النثر مُنتزعاً بالقوة من مفهوم "الشعر الحر"، الذي توهمته دون وزن. على أن اعتباري هذا النص قصيدة نثر اجتهاديّ، لأن المؤلف كتبه مع نصوص شبيهة باعتباره "قصة قصيرة جداً": "اعتاد زيدان أن يبكي ثلاث مرات في اليوم، مما دعا الجيران إلى طرق السقف والجدران احتجاجاً على الصوت النشاز.قرر زيدان، الذي خلقه الله بست أصابع في كل يد، وبقلبين (في كل جهة من الصدر قلب) أن يبكي يومياً بصوت خفيض محاباة للجيران ومرة واحدة لنفسه بصوت مسموع".